المحطة الثانية الّتي حددّت اتجاهي النهائي في الحياة، عدا قصّة خروجي من المسيحيّة، كانت عند انتقالي في المرحلة الثانويّة إلى مدرسة رسميّة تابعة للدولة. كان ذلك علـى ما أذكر عام 1955 . وقد كان ذلك بعد سقوط حاكم سورية الديكتاتور والجنرال العسكري أديب الشيشكلي. وكان تحالف حزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين هو من أسقطه.
فلمّا تفاوضوا فيما بينهم، سئل الإخوان المسلمون: ماذا تريدون؟ أي وزارة؟ فقالوا: نحن لا نريد وزارة، نحن لنا مطلب واحد وهو إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية. التعليم الديني كان مباحاً بل واجباً في المدارس الابتدائية والإعداديّة ولكن ليس في الثانوية. في الثانوية كنّا ندرس علوم الأخلاق والتربية الوطنيّة وليس هناك تعليم ديني. وعلى هذا النحو تقرّر إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثّانوية، وأنا ذهبت في تلك السنة إلى المدرسة الثّانوية.
ويومئذ، لمّا قيل لي هناك حصّة تدريس تعليم دينــــي، قلت لرفاقي، وكنت قد بدأت أميل إلــــى أن أصير حزبياً اشتراكياً من “حزب البعث”: أريد أن أحضر درس التعليم الديني لأني أريد أن أطّلع أكثر، فأنا كنت في مدرسة لم أتلقَّ فيها سوى التعليم المسيحي، ولكني أريد الآن أن أعلم المزيد عن الاسلام الّذي هو دين الغالبية السورية. حضرتُ الدرس.
شيخ طويـــل القامة بعِمّة. أذكر إلى الآن لون جلبابه الرمادي الأنيق. وكان قد كتب علـى اللّوح بالطبشور سلفاً: “كلّ من هو ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام”. كان هذا موضوع الدّرس. وبدأ يشرح ويشرح ورفـــاقي ينظرون إليّ، كلّ واحد منهم رمقاً، ليدركوا ردّ فعلي. ومضى نصف وقت الحصة وأنا أسمع الدرس. ثم قـــال الشيخ المدرٍّس: الآن أفتح باب النقاش. فسارعت أرفع يدي،
فقال :تفضّل، ما اسمك؟ فقلت وأنا أشدّدعلى اسمي: “جورج طرابيشي”، وجورج اسم لا يطلق في سوريا إلاّ على المسيحيين. فوجئ هذا الشيخ وانبثقت حبات عرق على جبينه . وتابعت قائلاً: يــــا أستاذ، أنا لست مسلماً، أنا مسيحي بالمولد، فهل أنا عدوّ لك؟
قال: أعوذ بالله ، من قال هذا الكلام؟ كيف تقول ذلك؟
قلت له: يــا أستاذ منذ أكثر من ثلاثين دقيقة وأنت تقول: كل من ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام، فهل أنـا عدوّ لك؟؟ فطفق الرّجل يتدارك خطأه، ويقول: لا، لا، فالمسيحيون أهل كتاب. وطبعاً كان السؤال الذي دار في نفسي: لماذا لم يتدارك ويستثنِ من البداية؟ وحتى لو لم أسأله فهل يكون كل من هو ليس بمسلم عدواً للإسلام؟ وقد كان ينبغي عليّ أن أضيف السؤال:حتّى وإن لم أكن من أهل الكتاب فهل أنا عدوّ لك؟ ولكني أمسكت.
ابتداء من تلك اللّحظة وعيتُ أن مهمّة كبيرة جدّاً لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا وأن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، بل هي أولاً وربما أخيراً قضية تغيير على صعيد العقليات.
وشاءت الصدفة فيما بعد، لمّا صرت أُدرِّس في الثانوية بدوري، ويوم افتتاح الموسم الدراسي، أن أفاجأ بوجود نفس الشيخ في قاعة الأساتذة ليكون مدرس التعليم الديني أيضاً في نفس الثانوية الّتي عُيّنت فيها مدرِّساً للغة العربية. قام عن كرسيه للحال وهجم نحوي وعانقني قائلاً: عذراً يـا أستاذ ، خطيئة ارتكبتها في حياتي لن أكررها أبداً
نقله : للشارع العربي د: معن الطائي