— حكايةُ أسرةٍ حدثتْ وليستْ من نسجِ الخيال…
— التقيتُه مصادفةً في إحدى المشفيات الحكومية في بلد النزوح كان رجلاً أربعينيَّاً مع أمه وجده الشيخ العجوز…
— احتضنني بحبٍّ كبير وقبلته بين عينيه والدموع انهالت على خديه…
— رأيت كارثة وطننا اليتيم متمثلة باختصار في هذه الأسرة البائسة حيث حدثني بكل بؤسها وتفصيلاتها فرأيتُ وسمعتُ وتمنيتُ لو أنني لم أرَه لعظم المصيبة وفداحة الأمر وهول المأساة…
— جدّْ عجوزٌ في التسعين من عمره قد انفضّ عنه أبناؤه وحفدته وانتشروا في فجاج الأرض بين لاجئٍ ومُهجَّرٍ ونازحٍ وطريدٍ وأسير وشريد…
— لم يبقَ معه من أبنائه وحفدته إلا ابنته الستينية المريضة وحفيده جابر…
— كلّ فرد في هذه الأسرة الكبيرة شقّ طريقاً في بلدٍ ما وترك الجملَ بما حمل…
— محمودٌ هاجر الى السويد وترك أسرته بين أنياب الذئاب وأغراهم أنه سيسعى للمِّ الشمل معهم لكنه أمسى يعيش حياته الجديدة ويقال أنه تزوج امرأة سويدية هناك من أجل الحصول على الإقامة…
— سارة وابنتاها في خيام الذل والعار في دول الجوار ومنذ أيام أحرقه الأشرار والفجَّار…
— ابنه سعيدٌ قيل أنه هاجر الى تنزانيا وقد انقطعت أخباره…
— ابنه وليد وأسرته استطاع اللجوء الى السودان وهناك امسى يبيع الخضار…
— نعيمة وخولة في حصار الجوع والبؤس والحرمان لدى تجار الدم والموت في وطن طوابير حيتان المال…
— سهيل الابن الأكبر قد بدّل شريحة جوّاله ولايريد أن يذكرَ أحداً أو يتذكّره أحدٌ فقد أُصيب بانفصامٍ في الشخصية وقيل إنه قد أنعم عليه الشيطان لعقوقه أهليه وذويه في عملٍ كنادلٍ في فندق بدولة خليجية…
— الحفدة الباقون لايعلم مصيرهم الا الله…
— تزاحمتْ جميع أوجاع الدنيا وتسللت نحو جسد الجدّ النحيل…
— صحا من غيبوبته وطاف بناظريه الى مَن حوله فرأى حفيدَه جابرا جالساً وقد ألقى رأسه المتعب من سهر الليل على بقايا كرسيٍّ خشبيّ…
— نخزه بيده المتصلّبةِ كأنها قطعةٌ خشبية…
— جابر…جابر..!!!
— أين أنا؟
— في المشفي ياجدي…
— لاحول ولا قوة إلا بالله ماحالتي؟
— صعبة للغاية يقول الطبيب ساعات ستكون بضيافة الرحمن وإنّا بك إن شاء الله للاحقون…
— هنيئا لك سترتاح من دنيا الذئاب…
— بارك الله فيك يابنيّ وكلنا رهنٌ لأقدار الله ولكني أسألك عن صغيري أحمد وزوجته وولديه ألم يأتكم منهم أيّ خبر بعد…
— اطمئن لقد قضوا شهداء غرقى في البحر وسنجتمع بهم ان شاء الله في جنات النعيم…
— وعبلة وزوجها وأولادها ما أخبارهم…
— هربوا منذ سنوات الى الرقة وارتقوا شهداء بمجازر التحالف العالمي المتفق على إبادتنا…
— لاحول ولا قوة الا بالله يارب إليك المشتكى…
— جدي لي عدة ايام وبألف واسطة وتقبيل الأيدي حتى استطعتُ إدخالك هذا المشفى الحكومي المجاني…
— تعرف تماماً لم نعدْ نملك قرشاً واحداً لإدخالك مشافي المترفين الخاصة…
— بعتُ أمس دراجتي الكهربائية فقد هددنا صاحب البيت بالآجار الذي أصبح مئة دولار وإلا سيلقينا في حاوية الزبالة كما ألقى المؤجرون كثيرا من متاع المهجِّرين والنازحين…
— لم تعد هناك رحمة أو شفقة في وطن الذئاب فالجميع يتربصون ببعضهم نهبا وفتكا بالفقراء والبائسين…
— بدأت حشرجاتُ صدر الجدّ تعلو شيئاً فشيئا لكنه أشار بيده وقال :
— حفيدي الغالي :
— وفقك الله وسامحك وأعلى مقامك.. أنت ولدٌ بارٌّ وأفضلُ من كلّ أولادي وأحفادي العاقّين الذين هربوا وتركوني لمصيري…
— هذا واجبٌ ياجدي…
— يابني قبل أن أفارق الدنيا وألقى ربّي سأنصحك فاستمع إليّ…
— جدي أرجوك لم تعد المواعظ والنصائح تجدي شيئا لقد فات الأوان…
— لاتغضب منّي فأنا لم أعد أطيق نفسي لأن نصائحكم ونصائح آبائكم وأجدادكم هي التي ألقتنا في مهاوي الفساد والهلاك…
— لاتغضب مني ياجدي فأنتم سبب مآسينا وذلك بذلكم وتهاونكم الذي مزجتموه لنا مع حليب الأمهات وعجنتموه مع خبزنا ففسدتم وأفسدتمونا معكم.. اسكت.. اخرس.. لايسمعونك.. للحيطان آذان.. لايسمعك فلان وعلان وتصبح في خبر كان…
— أنا لاأقصدك ياجدي أنت بالذات فهي تراكمات من عشرات العقود لذلك أرجوك ألاتغضب مني…
— انتم من خرق السفينة حتى غرقت بنا…
— انتم وأسلافكم الذين تركتم ربّانها منذ قرون يقودكم في بحرٍ هائج تتقاذفها الأمواج ولايستطيع أن يرسو بها الى برّ الامان….
— انتم من رأى الفساد يستشري ولم تضربوا على أيدي الفاسدين العابثين بل وصفقتم لهم خوفا وجبنا جرى في دمائكم…
— أنتم جيلٌ نخرٌ.. عفنٌ… جبانٌ… حسودٌ.. ذليلٌ.. حقود.. لايحب الا نفسه ولايعمل الا لمصلحته الفردية الخاصة وليذهب البلد الى الجحيم على أيدي شذاذ الآفاق والعابثين الفاسدين المفسدين…
— أنتم وأسلافكم من دمّر الأمة عبر أجيالٍ وذلك بجبنكم وتخاذلكم وبعتموها قطعةً قطعةً بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودات…
— أنتم وأجدادكم من ضيّع الأندلس وفلسطين والعراق والشام واليمن وليبيا والأمة بأسرها والحبل على الجرار…
— لم يعد جيلنا المدمّر يعرف من هو ولا في أيّ عصرٍ نعيش…
— قرّفتمونا عيشتنا بمِللكم ونحلَكم وطوائفكم ومذاهبكم وأعراقكم وكلٌّ يكفّر الكلَّ فالقاتل مجاهد والعدو القتيل شهيد…
— ملايين العرب والمسلمين تركوا لكم الوطن أنتم وأسيادكم مع الغزاة القادمين من خلف البحار والصحارى والقفار لأنكم استمرأتم الذل والعبودية فهنيئاً لكم بما اقترفت أيديكم بأجيالنا…
— جيلنا هرب من الوطن الذي لم يعد له فيه حجرا ولا وألف لا لن نردد شعار العملاء نموت.. نموت ويحيا الوطن.. يحيا لمن ؟؟…
— طوابير الشباب العرب من المحيط الى الخليج على أبواب السفارات الغربية وهم الآن يعملون بكرامتهم في المطاعم والفنادق وبالمهن الوضيعة في بلاد الكفر كما يحلو لكم تسميتها…
— بدأت حشرجاتُ صدر الجد تعلو ثم زاغت عيناه…
— أطبق جابر جفنيه وقبله بين عينيه…
— سامحك الله ياجدي فقد عشتَ غريباً منسياً ومُتّ غريباً في بلد النزوح…
— لن يشيّعك ويواريك التراب غيري…
— حمله على كتفه وشقّ طريقه بين الزحام في المشفى العام نحو المقبرة في ظاهر المدينة…
— هنيئاً لك ياجدي الرحيل وسامحني ربما رفعت ضغطك وكنتُ سبباً في التعجيل ولكنني على يقين ستكون بين يدي رب كريم رحيم…
— بلغ تحياتي للشهداء الذين ماتوا وضحّوا من أجل القطيع وإنّا بكم للاحقون…
محمدغدير **الشارع العربي **