السجين عبد الجبار
خربشات على جدار الذاكرة:
هي سلسلة من قصص واقعية عاشها أحد الأطباء في حياته المهنية , واليوم يرويها لنا بكل حذافيرها , من الواقع المعاش الذي تتكرر أحداثه في مجتمعاتنا…
قصة اليوم: الإستعصاء
لا يولد إنسان وهو مجرم ، داخل كل منّا قابيل و هابيل بآن معًا ، تلعب التربية والظروف التي يتعرض لها دورًا كبيرًا في تغلب أحدهما على الآخر ، لا يوجد مجرم ولد مجرمًا ، فكل منا يولد على الفطرة فأبواه والمجتمع يرسمان الطريق الذي يسلكه.
ليلة المناوبة
في مناوبتي الثانية في السجن كان النهار هادئًا نوعًا ما ، طابور السجناء الذين يراجعون العيادة كالمعتاد ، عشرات السجناء راجعوا بحالات عادية ، سعال ، مغص كلوي ، سكري ، صداع و مرضى مراقبة ارتفاع التوتر الشرياني .
كنّت أحاول أن أقدم ما أستطيعه لعلاجهم ، وأقيم الحالات بعناية تلك التي تحتاج أن تحول للمستشفى المركزي للعلاج ، وكنت أحضر معي بعض الأدوية والحقن التي طلبتها من إدارة السجن أنا والأطباء الآخرين دون استجابة ، فأحضرت مسكنات للألم، ومضادات للحساسية , وحبوب لتدبير الذبحات الصدرية مما قد تحتاجه أي عيادة إسعافية .
وكان تحويل المريض يمر بسلسلة إجراءات يتمنى فيها السجين أن لا يضطر للتحويل لطولها ، رغم أنها تعتبر بالنسبة له فرصة للخروج من السجن وتنفس هواء نظيفًا بعيدًا عن جدران السجن وعنابره.
إنتهى النهار وحل الليل ، ومعلوم أنه بعد السابعة مساءًا تكاد تنعدم الحركة في الرواق الرئيسي حيث العيادة ، ولا تسمع سوى همهمات وأصوات خافتة .
أحضر الطباخ لي الطعام الذي لم أقربه طيلة مناوباتي ، وقد كنّت أحضر معي ما آكله خلال المناوبة ، بسكويت ، فاكهة وعصير معلب ، وقليل من القهوة التركية لأحضرها لنفسي مساء .
أعددت فنجان القهوة ، ورنّ الهاتف ، رفع السجين الممرض السماعة ، سمعته يقول :
-٠ نعم لم ينم بعد
-٠ نظر في الأدراج حوله ، وأردف : موجود ثلاثة أو أربع
-٠ حاضر سيدي ، حاضر سيدي
نظرت للممرض :
-٠ خير إن شاء الله ! ماذا حصل
الممرض : مطلوب منك أن تذهب للمنفردات ، هناك حالة إستعصاء
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل .
سألت الممرض : المنفردات ! استعصاء !
قال نعم : هناك سجين قد جرح نفسه ‘
المنفردات
ظننت المنفردات بنفس البناء ، حمل الممرض حقيبة الإسعافات وقال : هيا دكتور سنغادر
رحنا حتى باب القسم الذي نحن فيه ، ركبنا السيارة و إتضح أن المنفردات بناء بعيد في آخر السجن بناء صغير أسود كالح ظننت أنه كبينة حراسة فاتضح لي أن البناء كبير جدًا ولكنه تحت الأرض ، لا أذكر كم درجًا نزلت , لكن حين وصلت كان هناك مكتب صغير ورجل أكن ينتظر,مشيت معه أنا والممرض بممر معتم حتى وصلت لزنزانة تفوح منها رائحة العفن والرطوبة والدم والعرق ، وشاب ضخم الجثة مقيد اليدين والقدمين ينزف من كل مكان من عنقه حتى ركبتيه بجروح متعددة مستقيمة ومتقاطعة ، عددها كبير جدا بعضها عميق والبعض سطحي ، كانت الإضاءة خافتة حتى أحضر الشرطي كشافًا قوياً ، صدمت من المنظر ، وقلت جروحه كثيرة والخيوط التي معنا لا تكفي ، كما أنه فقد كمية كبيرة من الدم وهو بحاجة لتعقيم الجروح ، لذلك الأفضل نقله للمستشفى .
ضحك آمر العنبر وقال : هذا ما يريده ” عبد الجبار ” وهو إسم السجين ، لقد أخفى موس الحلاقة في فمه ، ليجرح نفسه وننقله للمستشفى للهرب ، فعلها سابقا ، عالجه بما لديك ، فهو ميت ميت لأنه محكوم بالإعدام ورفض إستئنافه لتعدد جرائمه .
أمضيت ساعات أخيط الجروح الأكثر خطورة لديه ، ومحاولا توفير الخيوط التي بحوزتي لكي أعالجها أكثرها ، وأرسلت للطبيب المناوب في المستشفى إرسال المزيد من الخيوط مع الطبيب المناوب التالي تحسبًا .
قصة السجين عبد الجبار
بعد انتهائي اقترب الفجر ، جلست مع الضابط المناوب تلبية لدعوته لشرب فنجان قهوة ، فسألته عن جرمه ، قال هذا الشاب عمره ثمان وعشرون سنة ، من بيت محطم إجتماعياً ، تعرض بصغره للتحرش مرات متعددة ، سجن بعد ذلك بجنح متعددة في سجن الأحداث ، وبعد ذلك تحول لمجرم ، سرقة وشغب وبلطجة ، ثم إرتكب الفاحشة مع عدة أطفال إعترف بهم ، وفِي مرة إختطف طفل وبعد أن إفترسه قتله ، لأنه تعرف عليه فهو من نفس منطقته ، لذلك قتله ورماه في حاوية للقمامة وأشعل النار فيها ، وبعد سنة تم القبض عليه وإعترف بجرائمه فحكمه قطعي غير قابل للطعن وهو ينتظر تنفيذه ، وسبق له الهروب من المستشفى منذ أشهر ، لذلك هناك أوامر بعدم تحويله مهما كانت الأسباب .
من المجرم الحقيقي ؟
بعد عودتي للعيادة جلست أفكر في هذا الشاب ، هو حتمًا لم يولد مجرمًا ، إنما خلل التربية في المنزل والمجتمع أوصلته لذلك ، حتى سجن الأحداث الذي من المفترض أن يكون تحت إشراف نفسي وسلوكي لإعادة تأهيل صغار السن ، قد تحول معهدًا لإعداد المجرمين .
إننا لا نحتاج لإصلاح السجون بقدر إصلاح السجّان والقضاة والمدارس ، بل حتى إصلاح القوانين وإعادة تأهيل النظم الحاكمة
د:سليمان_عمر**الشارع العربي **