قصص من الواقع

أنا وحكومة الأسد

كتبت هذه الموضوع قبل ثلاثة أشهر وثلاث سنوات، ونشر ثلاث مرات منذ ذلك الحين، وتشاء الأقدار أن تذهب المرات الثلاث أدراج الرياح ما بين إغلاق الموقع واختراق موقعي الشخصي وفقدانه. وها أنا أعيد نشره من جديد كما هو من دون أي تغيير…

لماذا أكتب ذٰلكَ اليوم بعد نحو عشرين سنة؟

هو في الحقيقة موضوع لا أفاخر فيه، وما كان بودي أن أعلنه، ولا رغبة لي في ذٰلكَ، ولذٰلك قلَّ من يعرفه علىٰ مدار نحو عشرين مضت، بل فوجئت يوما مضى ببعضٍ يتحدَّث فيه قبل أن أخبر أحداً بذۤلكَ.

إذن أنشر ما لم يعد خفيًّا علىٰ كثيرين، وأنشر ذٰلكَ اليوم لسببٍ أساسٍ هو أنَّ الشَّاهد الرئيس الذي يمكن أن يؤكِّد أو ينكر حيٌّ لا أدري من يموت قبل الثاني فالأعمار بيد الله تعالى وحده.

كان ذٰلكَ في عام 1998م، آخر حكومة تشكلت في ظلِّ حكم حافظ الأسد. لن أتحدث عن الأسباب التي دعت إلىٰ ترشيحي للوزارة فبعضها تخمين وبعضها غير تخمين. ولٰكن قبل ذٰلكَ بحينٍ غير بعيد سألني غير صديق عن الوزارة التي أجد نفسي فيها إذا ما رشحت للوزارة، وكان جوابي في المرتين أو الثلاث جواباً كوميديًّا في ظاهره حَتَّىٰ إنَّ الثلاثة ضحكوا من الجواب لأنه صادم، كان جوابي: إذا خيروني فإنِّي أختار الدفاع أو الخارجيَّة أو الدَّاخليَّة. وهي المجالات الثلاث.

وبعد ذٰلكَ بحينٍ، عن طريق شخصٍ لا أظنُّ أنَّهُ يرغب في أن أذكر إسمه الآن، وصلتني دعوة من اللواء بهجت سليمان، وهو الذي كان يشكل الوزارة فعليًّا، قال فيها أنهُ يرغب أن يراني لأمر لا علاقة له بالوزارة. لم يكن في الدعوة ما يشير إلىٰ موضوع الوزارة، لأنه أمر لم يكن يدري به أحدٌ مطلقاً، فالأمر كان في فترة التَّحضير لإقالة الوزارة ،وتشكيل وزارة جديدة، ويعرف الجميع أنَّ مثل هٰذا الأمر لا يدري به أحدٌ؛ فجأة تقال الوزارة ويتم تشكيل جديدة خلال أيام أو أسبوع علىٰ الأكثر.

علىٰ الرَّغْمِ من أنَّ ظاهر الدَّعوة استشاري وإعلامي إلا أني أدركت أنَّ الموضوع مرتبط بموضوع وزارة جديدة، فطبيعة مضمون الدَّعوة غير منطقيٍّ أصلاً من وجهة نظري. ولذٰلك كان استعدادي النفسي والانفعالي قائماً علىٰ هٰذا الأساس؛ أساس أني مرشح للوزارة.

في حقيقة الأمر، تنازعتني في هٰذه اللحظات مشاعر متناقضة،كنت أرغب في أن أكون وزيراً في عهد حافظ الأسد لأسباب تاريخيَّة ليس هٰذا وقتها، ولأسباب شخصيَّة عمريَّة. ولٰكنِّي في الوقت ذاته كنت علىٰ أشد النُّفور من مثل هٰذه المسؤوليَّة ،لأني علىٰ يقين من أنَّ ذٰلكَ سيمسُّ نقائي الذي لا أريد أبداً أن أخسر منه شيئاً. ولا أزكي نفسي بطبيعة الحال، وإنما أعني أنِّي علىٰ دراية وإحاطة بكيفية فساد وإفساد المسؤولين وأنِّي مهما نأيت بنفسي فإنِّي سأتلوث مرغماً. وإلىٰ جانب ذٰلكَ كان هناك عامل جدُّ شخصيٍّ للرفض لا أرغب في هٰذا الوقت البوح به.

يعرف أصدقائي حقيقة موقفي هٰذا السَّابق علىٰ هٰذا الموقف واللاحق عليه. فبغضَّ النظر عن طبيعة السِّياسة ذاتها، وعن طبيعة المسؤولية ذاتها كان النظام السوري منذ أواخر السبعينيات علىٰ الأقل يسير في تلويث المسؤولين بمنهج مخطط مدروس بعناية، ولم يكن ثَمَّة مصادفة في ذٰلكَ أبداً، ولا سكوت، ولا تيار جارف، ولا خروج عن السيطرة مطلقاً… كلُّ شيءٍ كان مدروساً، ولم يكن أحد يدري ماذا يدور غير حافظ الأسد.

لذٰلكَ رجح عندي ما هو راجح سابقاً أصلاً بأني لا أريد أن أكون وزيراً.

لا أريد أن أكون وزيراً!!!

وكيف يمكن أن أرفض؟

وهل يجرؤ أحد علىٰ مثل هٰذا الرفض؟

كل من يقول أنَّهُ رفض أن يكون وزيراً ،أو حَتَّىٰ مسؤولاً صغيراً في ظل حكم آل الأسد فهو كاذب. حقيقة لم يكن بمقدور أحد أن يرفض أي منصب ،لأنَّ المنصب هو هدية من القائد الملهم، ومن ذا الذي يمكن أن يرفض هٰذه الهدية من هٰذا القائد؟ بل حَتَّىٰ الاستقال من المنصب ما كانت لتكون حقًّا لأحد. كثيراً ما كان يكرر أصحاب القرار، من المخابرات طبعاً: «شو استقالة؟ نحن منحطك ونحن منشيلك».

لم تخني قدرتي وثقافتي عن إيجاد مخرج من هٰذا المأزق. وقد كانت الظروف مساعدة لي في ذٰلكَ. كان الجو صيفيًّا، ولا أذكر التاريخ في حقيقة الأمر لأنَّهُ لم يكن أمراً مهمًّا عندي، ولۤكنَّهُ كان صيفيًّا. وكان شعري طويل جدًّا.

كان يفترض بي أن ألبس طقماً رسميًّا لمثل هٰذا اللقاء فذهبت بقميص نصف كم، مبرقع بخمسة وثلاثين لوناً، ببقع عشوائية تشبه خريطة سوريا اليوم. وكان يفترض بي أن أقص شعري وأصففه فتركه بعشوائيته. وكان يفترض بي أن أحلق ذقني فتركها علىٰ يومين من عدم الحلاقة.

الشخص الذي وجه لي دعوة اللواء بهحت هو نفسه الذي أخذني إليه، لأني لا أعرف المكان، هٰذا الشَّخص عندما رآني بهٰذا المنظر صدم وتفاجأ. ولٰكنَّ المفاجأة الكبرى بل المدهشة كانت لي عندما دخلت البناء الذي فيه مكتب اللواء بهجت.

انتابني شعور غريب وأنا علىٰ مدخل البناية، وعندما رحت أصعد علىٰ الدرج راحت تعصف في مخيلتي تداعيات من المشاعر التي أدر كتها وأنا علىٰ الدرج الصاعد نحو نصف طابق إلىٰ الطابق الأول، وما كدت ألج باب الطابق وأتجه إلىٰ اليسار حَتَّىٰ كأنما تجمد الدم في عروقي، لم أعرف لماذا أبداً، ولٰكنَّ إحساسي أن ثَمَّة شيء في هٰذا المكان.

هي ثواني قليلة، ولۤكنَّهَا كانت دهراً من التأملات. لم أتخيل أبداً أنَّها ذكريات، كانت انفعالات ضبابيَّة غير محدَّدة المعالم، مثل أفلام الرُّعب تقريباً، تقفز صورة إلىٰ ذهني ولٰكن بالكاد أستلمح ما فيها، كل أقل من نصف ثانية تتواثب الصُّور أمامي ولا أستطيع التمييز بَيْنَها.

بعد قرع الباب كان اللواء بهجت قد خرج من وراء طاولة مكتبة ليتقدم إلىٰ الباب. قبل هٰذا اللقاء كان اللواء بهجت قد حضر أكثر من نشاط ثقافي لي، وبعده كذٰلكَ، ولٰكنِّي لم أكن أعرفه من قبل، وفي السنوات الأولى من حكم بشار الأسد حضر لي أكثر من نشاط ثقافي.

تصافحنا، ولم يكن من قبل ولا من بعد من رهبة عندي أبداً لشخص مهما علا، وما كان في الخارج لا علاقة له بأي رهبةٍ أبداً وأنا أعي ذٰلكَ في أثناء تلك المشاعر. تصافحنا، جلسنا علىٰ الآرائك في صدر المكتب.

يا إلۤهي!!!

ما هٰذا؟!

ما كدت أجلس وأجيل الطرف في أرجاء المكتب حَتَّىٰ راح قلبي يخفق بسرعة مدهشة… لقد دخلت هٰذا المكتب وأنا طفل. هٰذا اليقين الذي استقر في عقلي علىٰ الفور. كل شيء تقريباً كما هو علىٰ مدار عقود مضت. كأنَّهُ لم يتغير أبداً، أتذكر نفسي تماماً عندما دخلت هٰذا المكتب وأنا طفل، كنت مع أبي بطبيعة الحال، تذكرت خطواتنا علىٰ الدرج، الانعطاف إلىٰ اليسار، الدخول إلىٰ المكتب، الجلوس علىٰ الأرائك التي دفعني الإحساس إلىٰ أنَّها تكاد تكون ذاتها وهي الوحيدة رُبَّما التي تغيرت في داخل هٰذا المكتب.

لم ينتبه اللواء بهجت إلىٰ ما يجيش في خاطري، ولٰكنَّ هٰذا ما شغل بالي وشغلني، مع عدم تأثيره في محادثتنا، طوال الحديث وأنا منشغل في الموضوع. لا أتذكر كيف ولا لماذا ولا إلىٰ من كانت الزيارة ولا ما هو سببهها…

صحيح أنَّ المحادثة كانت تدور بهدوء ولا شيء يعكرها أو يؤثِّر فيها إلا أنَّ انشغالي لم يمنعي من قطع الحديث والقول للواء بهجت:

ـ من كان يوجد قبلكم في هٰذا البناء تحديداً.

قال: لا أحد، نحن.

قلت له: في أوائل السبعينيات، لقد دخلتُ إلىٰ هٰذا المكتب وأنا طفل، وهو كما هو منذ تلك الأيام لم يتغير.

قال: لا أحد، هٰذا الفرع هنا منذ تلك الأيام.

هنا قطعت تفكيري في الموضوع تقريباً، لأنَّ جوابه سيدخلني في متيهات احتمالاتٍ خاطئةٍ، أنا علىٰ يقين من دخولي مع أبي إلىٰ هٰذا المكتب تحديداً كما هو في أول السبعينيات، ولكني علىٰ شبه يقين بأنه لم يكن مخابرات.

طبعاً تواردت إلىٰ ذهني كلُّ الاحتمالات الشَّائعة من تقمُّصٍ وتناسخٍ وذاكرةٍ وراثيَّةٍ وذاكرةٍ ماكرةٍ وكل ما هنالك… ولۤكنَّهَا كلها لا علاقة لها بالموضوع، لأني علىٰ يقين من أني أنا شخصيًّا وأنا طفلٌ دخلت مع أبي إلىٰ هٰذا البناء تحديداً، وإلىٰ هٰذا المكتب تحديداً.

في عود إلىٰ موضوع الترشيح إلىٰ الوزارة. بدأ الحديث علىٰ أساس ما بنيت عليه الدَّعوة ولۤكنَّهُ سرعان ما انعطف من اليمين إلىٰ اليسار ودار في الجهات كلها، وكان معنا في اللقاء الدكتور كامل عمران رحمه الله، وكان مرشحاً أيضاً للوزارة. طال الحديث ولٰكنِّي وقد تيقَّن لي سبب اللقاء، تعمدت إلىٰ كثرة المخالفة والاعتداد بالرَّأي والموقف علىٰ خلاف ما هو مطلوب من المرشح. إن كان يتذكر اللواء بهجت فسيتذكر تماماً كيف أنِّي لم أوافقه رأياً إلا لمماً. حَتَّىٰ فيما يتَّفق مع قناعاتي كنت أعمد إلىٰ المخالفة لأعطي انطباعاً بأني غير قابل للانقياد الأعمىٰ، وهٰذا ما أنا عليه في حقيقة الأمر.

حرصت في الشَّكل الذي ذهبت به، وفي الحديث كلِّه علىٰ فرض رفض ترشيحي للوزارة لما سبق من الغايات ولغاية أُخْرَىٰ شخصيَّة كانت أكثر حضوراً في حقيقة الأمر لا أبوح بها اليوم لأسباب شخصيَّة أيضاً، وإن ذكرتها لبعض الخصوص من الأصدقاء ذٰلكَ الحين وعتبوا علي وتبرَّموا من هٰذا العذر.

وما هي إلا عشرة أيام تقريباً حَتَّىٰ أقيلت الوزارة. عشت الأيام الثلاثة تقريباً في قلقٍ شديدٍ خشية أن يكون اسمي في الوزارة، المقربون الثلاثة من أصدقائي الذي علموا بالأمر كانوا علىٰ أمل وكنت من أملهم ودعائهم في تبرم وضجر، لأني كنت أفكر في نفسي، وكانوا يفكرون في قلوبهم وحبهم.

وانزاح الهمُّ الجاثم علىٰ صدري عندما وصلتني التَّسريبات قبل الإعلام عن الوزارة، ومع ذٰلكَ بقي شيء في النَّفس خوفاً من مفاجأة، وارتحت تماماً بعد الإعلان الرسمي عن أسماء الوزارء.

ظننت أنِّي نجحت في خطتي في رفض الوزارة. وظلَّ ظنِّي كذٰلكَ حَتَّىٰ تشكلت الحكومة الجديدة بعد بضع سنوات عندما سمعت أحاديث تدور عن أني لم أقبل في الوزارة لم أدفع المبلغ المرقوم بالملايين لتولي هٰذا المنصب.

لم أرشَّح للوزارة الجديدة هٰذه، ولم أكن أتوقع ذٰلكَ ولا أرغب فيه بطبيعة الحال، ذٰلكَ أنِّي في اليوم الثَّاني من وفاة حافظ الأسد استضافتني قناة الجزيرة للتعليق، وأغضبتُ رجال النِّظام خاصَّةً بجوابي علىٰ سؤال جمال ريان عن الحرس القديم، إذ قلت: «لا يوجد حرسٌ قديمٌ ولا حرسٌ جديدٌ، من يخدم النِّظام ويخلص له يبق ومن لا يخدم النِّظام ولا يخلص له لن يبقى».

ولٰكنَّ الذي فاجأني في فترة تشكيل الوزارة أنَّ عدم دفع بضعة ملايين الليرات هو السبب وليس كل تخطيطي وتمطيطي وتشطيطي. فوجئت بهٰذا الكلام عن اللواء بهجت لأنه خالف كل تصوراتي عنه، وكل المعلومات التي نقلت لي عنه. لا أؤكد ولا أنفي، فما استلمحت دليلاً ولا أنا تتبعت.

المفكر عزت السيد أحمد **الشارع العربي**

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى