مختارات الشارع العربي

نبض

#فتاة القمل”

يتمرد ويتسلل من تحت حجابي فيسير أعلى جبيني، تناظرني زميلتي فتصرخ بأعلى صوتها: “معلمتي، معلمتي! أريد تغيير مقعدي”. فتسألها المعلمة: “لماذا؟” فتجيبها فورًا: “إن نبض مقملة، وأمي أخبرتني ألا أجلس قرب أمثالها حتى لا ينتقل لي”.

ما إن قالتها حتى توجهت كل الأنظار نحوي، كأني دخيلة على القسم. انتقلت إلى مقعد آخر وظللتُ أجلس وحدي. لا رفاق لي في الاستراحة، نُبذت حرفيًا، حتى نظرات المعلمة كانت كلها اشمئزازًا وكرهًا تجاه طفلة لا تتعدى الثانية عشر من عمرها.

أُطلق عليّ لقب “نبض المقملة”، ورغم كل الألفاظ الجارحة، لم تجرِ من عيني دمعة. تماسكت وقاومت؛ فلا ألمًا عاد يستحق دموعي غير ذلك الفقد. وإن بكيت يومًا سأعتبره خيانة جسيمة لها، وكأنني عادلت ذلك الألم بتوافه الدنيا.

وفي يومٍ، أعطتنا المعلمة واجبًا فجائيًا في القسم، واجبًا تعبيريًا عن الأم. حينها، ولأول مرة منذ أربع سنوات، خُنتُ عهدي: “لا دموع، لا ضعف”. فبكيت صامتة، تمالكت نفسي حتى لا يتحول إلى نحيب أو شهيق، كي لا تتخطفني تلك النظرات المزرية.

كتبتُ الواجب وكان لابد من تقديمه شفهيا. وكالعادة، “نبض المقملة” هي آخر من تنادي عليها المعلمة، أو يرحمها جرس الإيذان بالخروج حتى لا يسمع صوتها كأنه صوتٌ يصيبهم بالقرف.

صعدت بخطى متهاوية، وقفت في المنتصف، تشجعت حتى لا تسابقني الدموع. لم أنبس ببنت شفة فنهرتني المعلمة: “لن ننتظرك يا نبض، ستكون علامتك صفرًا إن لم تنطقي”.

فبالكاد استطعت استجماع قوتي لأتكلم، فقلت: “حالا معلمتي، سأقرأ”. فقرأتُ:

“الأم هي نبض، وأنا لا نبض لي. الأم هي من ترعى بنتها، تربيها، تحضنها، تمسح دمعتها، تغدق عليها حبها. وهكذا كانت أمي، هكذا كانت نبضي قبل توقفه. كانت تمشط شعري وتحافظ عليه، لكن عندما صارت نجمة في السماء، توقف نبضي. فعدتُ نبض المقملة. حتى أنا كانت لدي أم مثلكن جميعًا، أم تهتم بهندامي، لكنها ذهبت بعيدًا وتركتني. فارقتني منذ أربع سنوات، ومنذ ذلك الحين لم أعد أشعر أنني على قيد الحياة. ثيابي رثة. قرأتُ مرة والفضل لأمي التي كانت تردد على مسامعي دائمًا: [اقرئي يا بنتي كي لا تكوني أمية، لا تتركي كتابًا إلا وقرأتيه. كوني طفلة واستمتعي بوقتك، لكن لا تتركي دراستك. كوني بنتي التي أفتخر بها أمام العالمين، لأقول حينها: صحيح أن سندي توفي عند ولادة نبضي، لكن من خلف نبض لا يموت].

أما ما قرأته أن الأمومة هي غريزة في كل النساء، لكن هذا غير صحيح. فأمي حازت كل الأمومة، وعندما أفلت شمسها، اندثرت الأمومة من الدنيا. أعيش رفقة عمتي بعد أن توفي أبي عند ولادتي. صحيح أنني أفتقده، لكن طعم الفقدان كان أقسى عندما غادرتني هي. عمتي أعطتني المأوى والمأكل، إلا أنها لم تعطني حضنًا. فأصبحتُ نبض المقملة التي تقف أمامكم. أمي رحلت ولم تخبرني أنه عليّ العيش بعدها.”

لم أستطع استكمال قراءة الواجب كاملاً، فدخلت في نوبة بكاء هستيري، يشفع لكل ذلك الكبت السابق الذي امتد لأربع سنوات. ولأول مرة، شعرت بحضنٍ حقيقي، حينما تخلت المعلمة عن نظرات الاشمئزاز، وتحولت إلى نظرات عذاب الضمير. لأول مرة، تخلت الزميلات عن خوفهن من القمل، فعانقنني…

#نور_معتم  #مختارات-الشارع-العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى