مختارات الشارع العربي

عندما يرفض المشيب أن يشيخ

يقول صاحب القصة:

توفيت زوجتي قبل خمس سنوات وقبل ان تتوفى كان قلبي ميت معها لم اجد الحب الذي يتكلمون عنه طيلة الاربعة وثلاثون عاما.. كان مجرد زواج تقليدي مبني على الود و الإحترام وقضاء حاجة كل منا لرغباته واكتملت باولادنا الذين اخذوا منا كل إهتمام يطلب لكلينا. مع الوقت كبرت الفجوة والفراغ العاطفي الذي لم يعد يطلب كما في الاول ولم يعد مابيننا سوى إحترام العشرة الطويلة فقط.

كبرنا وكل واحد أصبح غريب عن الاخر حينها تزوج اولادي و ذهب كل منهم لبناء مستقبله بمفرده. وكأننا مجرد سلم يعبرون عليه. وانتهت مهمتنا لهذا الحد. ليعلنوا بدلا عنا خلاص مسؤوليتنا نحوهم. بعدها مرضت زوجتي وتمكن منها المرض لينهي حياتها الشاقة.ليأخذها إلى العالم الاخر ربما تجد الراحة فيه اكثر من هذه الحياة البائسة.

اصبحت وحيدا رغم اني لي عائلة وأحفاد. كنت اطوف عليهم بالواحد اشحت منهم الحب والإهتمام ولكن كل مساء اعود لمنزلي خائب الرجاء. أنام مكبوت الاحاسيس الارق والحزن يجتاحني كل ليلة. انتظر بفارغ الصبر ضوء النهار. حتى اخرج من ظلمة الوحدة إلى الشارع كي أجتمع باصدقائي. في المسجد احيانا. وفي المقاهي عدة مرات.. ومع ذلك يعود الجميع إلى منزله. و ابقى انا الوحيد الذي يمسك بفنجانه يرتشف فراغها متظاهرا انه مزال به القهوة.. اسأل نفسي نفس السؤال المتكرر الذي يجول في ذهني… إلى متى سيدوم حالي مثل هذا الحال..؟

وفي احد الأيام وانا مار من إحدى الشوارع أقوم فيها بزيارة احد الأقارب وإذ بي اسمع صراخ فتاة ما ومجموعة من الناس يظهر انها ملتفة من حولها. خمنت انها بلبلة الفتيات المعتادة إثر معاكسة لأحد الشباب. فاردت ان أمر مرور الكرام دون ان اتدخل في شؤون لاتعنيني. وإذ بمنظر إستفزني بعد ان رمى بصري بالصدفة خرق بها تلك الجموع ..لأرى شاب يحطم طاولة ويرمي باغراضها هنا وهناك. وهو يشتم تلك الفتاة التي تنوح وتبكي وهي تدعوا عليه ان يكسر يدي الشاب إثر مافعل بها. والمشكلة ان لا احد من الحاضرين تدخل واستنكر فعلة الشاب الشنيعة.. هنا لم أستطع ان أتمالك نفسي. وذهبت لامسك بذراع الفتى وازيحه للخلف بعيدا عن تلك الفتاة الذي كاد ان يتمادى ويضربها المسكينة.. حينها وبخته بأن القوة ليس من شيم الرجال كي يطبقها على النساء. وان كان هناك مشكلة فستحل بالعقل.. وبعد محاولات الشاب بإستعماله العنف. إلا انه مع الاخير إستكان وامتثل للحلول التي منحتها له.. والقضية كانت بسيطة جدا. فالفتاة أخذت مكان الشاب اين يضع مصطبته ويبيع عليها بعضا من الخردوات المنزلية.. فنصحتهما ان يتقاسما المكان بما انه واسع. فلا ضرر في ذلك. وكل واحد له قسمته ورزقه الخاص الموزعة عليهما بعناية من صاحب الارزاق.. كما هدأت من غضب الشاب بأن يتقبل الفتاة ويعتبرها كأخته. فلو كانت ليست محتاجة. لما إضطرت ان تكون على رصيف الشوارع بدل ان تكون اميرة في بيتها.

وقبل ان امضي لحال سبيلي بعد ان حلت المعظلة إذ بتلك الفتاة تناديني بالحاج من خلفي. وعندما إستدرت إليها شكرتني كثيرا واهدتني ساعة عتيقة مت مبيعاتها مستديرة الشكل ملتصقة بها سلسلة حديدية وعرفتني كيف توضع داخل جيب المعطف دون ان تسقط. كانت الساعة عربونا على مساعدتي إياها.. في تلك الاثناء كنت غير منتبه لتلك الساعة قدر ماكان إنتباهي على ذلك الوجه الجميل المبتسم. وملامحها الشرقية التي رسمت بدقة من الذي ابدع وصور في خلقه.. بعدها شكرتها بدوري وعدت ادراجي إلى منزلي متناسيا اين كانت وجهتي من قبل.

في تلك الليلة لم تفارقني صورة تلك الفتاة الغريبة وابتسامتها التي تبهج اي صدر مهموم. فاستغربت من حالي كما خجلت من نفسي. كيف افكر في فتاة تصغرني بسنين وهي لاتتعدى الثلاثين من العمر. ورغم ذلك لم امنع نفسي أن اذهب إلى ذاك الشارع. واتظاهر انني مار امام تلك الفتاة. هل ستتذكرني. ام ستحبط مناي؟ ولكن الغريب ان الفتاة مجرد ان لمحتني من بعيد تركت مصطبتها دون حراسة. وقدمت نحوي راكضة.. فسلمت علي بحرارة وكأني قريب عاد للتو من سفره.. وكم سررت بذاك الإهتمام المفاجيء بالنسبة لي.. وبعد ذلك كثرت لقاءاتنا وتنوعت احاديثنا. وتغمقت مشاعرنا. ولم يعد لي طاقة البعد عنها. فتعلقي بها اعلم من اين اتى.؟ الفراغ والوحدة. والبحث عن الشريك. من اهم اسبابه. فروح الانسان لاتشيخ. ستبقى متعطشة لإحتياج سقيها الحب والاهتمام حتى ولو هو طاعن بالسن.. وبدون مقدمات طلبت منها الزواج.. ولم استغرب قبولها بالعرض. لانها هي كذلك تحتاج لشخص يحتويها وتأمنه على نفسها. فوجدت في الاب الذي فقدته في صغرها. والاخ الذي سافر وترك أخواته بمفردهن دون معيل. والصديق الذي إنعدم وجوده بحياتها. فتعددت الاسباب والسبب واحد هو حضور الراحة والإطمئنان والامان لكلينا.

تزوجت بالاخير فتاة احلام الصغر رغم رفض اولادي بشدة.خوفا من اخذها منهم ورثهم الذي ينتظرونه بلهفة. فأعادتني بأسلوبها الشقي وعاطفتها الحنونة إلى شبابي الذي مر كالطيف ولم انعم بتلك المشاعر الصادقة النبيلة التي منحتها كلها لها وانا في كبري.

#مختارات-الشارع-العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى