قصص من الواقع

عندما تجوع الحرة

في زمن الذئاب

—- [ جِراحَاتٌ ناكِئةٌ لم تندملْ بعدُ ]——-

— يسألني حضرة الفيس :
بِمَ تفكِّر ؟!
— سأخبرك بما جاش في صدري ؛ وأقضَّ مضجعي وبتُّ ليلتي مسهّّداً والدمعةُ الحبيسةُ لم تفارقْ مقلتي…
— ياصديقي مارك :
— منذ يومين خرجتُ كعادتي إلى سوق الخضار أتجوَّل كغيري فيمن يتجوَّل بين العرباتِ والبسطاتِ في العَرَصَاتِ؛  لعلي أهتدي إلى أسعارٍ تتواءم مع ذوي الدخل المهدود…
— الناس يسألون ويتساءلون! ويكفرون بالغلاء وبتلك المآسي الجسام!  ويساومون الباعة في أدنى احتياجاتهم الضرورية؛  ويبازرون ثم يمضون إلى غير هدىً وسبيل…
— اشتريتُ حاجياتٍ ودسَسْتُها في كيسٍ صغيرٍ واتجهتُ إلى أحد بائعي الخضار…
— وضعتُ الكيسَ على مقربةٍ من العربة وبدأت في شراء بعض الخضار…
— شعرتُ أن يداً خفيفةً تَلُصُّ كيسي في غفلة عن الأنظار…
— إلتفتُّ يمنةً أبحث عنه فلم أجده؛  وإذا بامرأةٍ خمسينيةٍ قلتُ لها يا ابنتي هذا الكيسُ لي وأنت تظنين أنه لكِ؛  كي لا أحرجَها أمام العوام…
— إنتفضتْ بوجهي قائلة :
أيُّ كيسٍ يارجل.. حرامٌ عليك لتتهمني بما لست أنا فيه…!!
— تدخّّلَ البائعُ لينتزعَه منها وكأنَّه يعرف سابقاتٍ لها لكنني منعته ودفعته ؛ وبرَّرتُ للحضور أنّّني مخطئٌ فلربّّما قد نسيته عند أحد البائعين…
— استرعتْ هذه المرأةُ فضولي وإهتمامي ؛ وقد أيقنتُ أنّّ حاجتي المسروقة لديها؛ وبدأتُ كالمخبرين أراقبها عن بعد؛ وأسترق النظر إليها بحيث أراها ولاتراني…
— مضتْ إلى العرباتِ والبسطاتِ الأخرياتِ التي يكثر زبائنها فيضيع الحابل بالنابل؛ لتستعير حبة طماطم أو كوسا أو بطاطس في غفلة من أعين الحضور؛  وتلقيها في جعبتها ثم تمضي…
— إنتقلتْ بعدها إلى سوق اللحامين تنظر إلى الأرض تبحث عن بقايا عظم أو جلد أو مما تلتقطه القطط والكلاب…
— خرجتْ من السوق إلى مكبِّ القمامات ؛ وأنا أراقبها عن بعد في كل حركاتها وسكناتها…
— حنتْ ظهرَها في الحاوية ؛ وبدأت تشمُّ بقايا عظام الجزور وأحشاءها التالفة؛  وتلقي ما تستسيغ رائحته في جعبتها…
— جمعتْ رزقها وهمّّتْ بالخروج من السوق؛  فتقدمتُ إليها مُسلِّماً بكلِّ أبوِّةٍ وحنانٍ ومددتْ يدي في جيبي لأطمئنَها بحسن نيتي تجاهها؛  فعرفتني ونظرت إليَّ بخجلٍ مريع…
— قلت لها لاعليك يا أختاه؛  أنا سامحتك وهذه النقود البسيطة هديةٌ مني إليك…
— خرِسَ لسانُها وأجابتني دموعُها المنهلةُ فوق نقابها…
— جلسنا معاً على الرصيف ؛ وبدأتْ تسرد حكايتها وحكاية أيتامها ومعيلها الذي خرج مع الحرب المجنونة التي فُرِضت عليه ؛ ولم يعد منذ سنوات…
— قالت ياعم إنني أخرج كلَّ يوم أتلقط رزق العيال ؛ أنا ومئاتٌ من البائسين والبائسات في حيِّنا المهجور في ظاهر المدينة؛  ونحن نبحث في الحاويات عن لقمة تسدّ الرمق وتمسكُ الحياة على العيال…
— غادرتني بدموعٍ سخينةٍ؛  فأحسستُ أنَّ الدنيا قد أظلمت في عينيَّ ولم أعد أطيق نفسي من ذلِّ السؤال ونحن نعيش في دنيا الدئاب…لمثلِ هذا يموتْ القلبُ من كَمَدٍ ؛ إنْ كانَ في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
— في تلك اللحظات البائسات ؛ مرَّ بخاطري شاعر العراق الرُّصافي حينما صادفتْه أرملةٌ مرضعٌ منذ مئةِ عامٍ ؛ وكأنّّ التاريخ الكنود يعيد نفسه من جديد…
— بدأت أدندن بحرقةٍ ودون وعيٍ أبياته الحزينة الشهيرة :
لقيتُها ليتني ما كنتُ القاها
تمشي وقد أثقلَ الإملاقُ ممشاها
أثوابُها رثّةٌ والرجلُ حافيةٌ
والدمعُ تذرفُه في الخدِّ عيناها
بكتُ من الفقرِ فاحمرَّتْ مدامعُها
واصفرَّ كالورسِ من جوعٍ مُحيَّاها
الموتُ أفجعَها والفقرُ أوجَعها
والهمُّ أنحَلها والغمُّ أضنَاها

— يا أشقاءنا من بني الإنسان في كل زمان ومكان…
— لقد هرب السوريون من جحيم الموت الذي يديره كل وحوش البشرية؛  وحثالات الإنسانية إلى جحيم الجوع والألم والبطون الخاوية…
— صعوبات الحياة اليومية؛  دفعت السوريين إلى اليأس والقنوط والأحباط؛  ولا أحد فى الدنيا يستشعر مصاعب الحياة اليومية الكاوية للشرفاء والبائسين…
— أمراضٌ ومجاعاتٌ وأوبئة وانهياراتٌ إقتصادية متلاحقة تصبُّ على رأس السوريين دون استثناء ؛ عدا تجار الموت وأمراء الحروب المتخمين حتى النخاع…
— كم هو أمرٌ عجيبٌ وغريبٌ هذا السكوتُ الأصمُّ؛  وذاك الصمتُ المطبقُ في العالم عمَّا يجرى فى وطننا الصغير؛  من تجويع وسحقٍ لإنسانية الإنسان وتدميرٍ للحياة الإجتماعية؛  بفضل حيتان المال وعبيد الدرهم والدولار ؛ المرتبطين بعابري البحار والفيافي والقفار…
— حصارٌ لما تبقَّى من الشعبِ بكل أطيافه وطوائفه وأعراقه وإثنياته من أقصاه إلى أدناه…
— إنها صورة مروِّعةٌ للموت بالقطارة   تحت سمع وبصر الأباطرة والقياصرة والهراقلة والأكاسرة ؛ وأصحاب الجلالة والفخامة والزعامة والرياسة والسمو والمعالي والسادة والقادة؛  والساسة والمعارضة والموالاة؛  ولا نسمع منهم إلا نعيب البوم ونعيق الغربان ؛ الذي يوراون به سوآتهم سوءات القرود…
— الشعب السورى بكلِّ أطيافه عاطلٌ عن العمل أو معطَّلٌ ببطالة مقنَّعةٍ لايعلمها إلا الله في علاه…

— أخيرا :
— في منظر هذه الحرّة التي تبحث عن طعام عيالها أجدني قد كفرتُ بالعرب والعروبة؛  وبالمسلمين المتأسلمين؛ وأستثني بعض الشرفاء الذين مدّوا يد العون لأهليهم وذويهم ومحبيهم؛  ومازالوا يمدون…
— كفرت بالإنسانية وحقوق الإنسان؛  وكم تمنيت لو كنا نتبع جمعيات حقوق الحيوان…
— اللهم إنّّنا – السوريين- نرفع قضيتنا من أيدي وحوش البشرية إليك وحدك يارب البرية ؛ فأنصفنا يا أحكم الحاكمين أوَ لستَ القائل :
— { وعزَّتي وجلالي لأنتقمنَّ من الظالم في عاجله وآجله…
— ولأنتقمنّّ ممَّن رأى مظلوما وقدر أن ينصره ولم يفعل }…
— اللهم عليك بهم فإنهم لايعجزونك.. إشفِ صدورنا ..فرِّجْ كربنا فما لنا أحدٌ سواك…
— وصلِّ اللهم وسلم على ممحمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

محمدغدير** الشارع العربي **

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى