قصص من الواقع

عندما يموت المظلوم في بلاد الظلم

             

                           خربشات على جدار الذاكرة:      

   هي سلسلة من قصص واقعية عاشها أحد الأطباء في  حياته المهنية , واليوم يرويها لنابكل  حذافيرها , من الواقع  المعاش الذي تتكرر أحداثه في مجتمعاتنا

 

 مناوبتي الأخيرة في السجن 

وصلت لعيادة السجن لمناوبتي الأخيرة ، حينما يقوم الطبيب بهذه المناوبات لا يمكن له توقع ما قد يواجهه فيها ، كانت هذه المناوبة الآخيرة لي يوم جمعة ، وصلت ولَم يكن يشغل تفكيري سوى أمر تفويت صلاة الجمعة ، ففي سوريا كان من يتحدث عن موضوع الصلاة ،أو يتناول المواضيع الدينية علانية في بعض الأماكن يضع نفسه تحت دائرة الشك .
كثيرٌ من الشباب كانوا في المعتقلات ، وآخرون هربوا للخارج ، لذلك صار النقاش بالدِّين بحده الأدنى ، وكذلك تأدية شعائره لم تكن ممنوعة بل الأفضل أن تقوم بها مع شيء من الحذر.
تعود بي الذاكرة بعيدًا إلى فترة الجامعة ، ومعسكرات التدريب العسكري الصيفية ، وتلك المعسكرات يعرفها طلاب الجامعات السورية، حيث كانوا ينتظمون بحياة عسكرية لمدة أسبوعين في فترة الصيف , ولمدة ثلاث سنوات متتالية من دراستهم الجامعية ، حينها كان ضبطك وأنت تصلي مبرر غير معلن لعقابك ، وقد يدفع الضابط لحلاقة شعرك ، مع حرصه أن لا يصرح بأن السبب صلاتك ، إنما سيخترع ألف سبب لذلك .

صلاة الجمعة بالسجن

حوالي الساعة العاشرة كان هناك نشاط ملحوظ في الرواق الرئيسي للسجن، بضع سجناء يقومون بسكب الماء على أرض الرواق ، رائحة منظفات ، شطف وتنظيف ومسح . حين بلغت الساعة الحادية عشر رُكب مكبر غير بعيد عّن باب العيادة وصوت قرآن وأدعية وقبيل الظهر ، بدأ السجناء يمدون سجادات صلاتهم ويجلسون ثم رفع الآذان .
قال لي الممرض : حانت صلاة الجمعة دكتور ، ألم تحضر سجادتك ، فتح باب الخزانة وأحضر سجادة دفعها لي وجلست قرب باب العيادة وحضرت الصلاة.
كان المؤذن والخطيب أحد السجناء ، طبعًا في الدعاء لم ينس الخطيب تمجيد الرئيس والدعاء له ، و اللهج بذكره وشكره على مكرمته وكرمه .

أنا وأبو محمود وقضية الفساد

عدت للعيادة وإذ بوجه مألوف لدي ، أقترب مني وصافحني .

نظرت إليه ، هل هذا أنت أم أني مخطئ .
رد عليّ : بل أنا !
ضممته هنيهة وجلست معه ، طلبت من الممرض اتحافنا بكوب شاي .
ما الذي أتى بك هنا يا أبا محمود ؟ ما أعرفه انك عدت وسافرت إلى ليبيا بعد غربتك فيها عشر سنوات ! هذا ما قاله لي أخاك !
أبو محمود : صحيح هذا ما يقولون ، لا يريدون أن يكثر اللغط حول سجني .
سألته : وهل جرمك يسيء لسمعتك أو سمعتهم ؟!
أبو محمود : جرم ! أي جرم هذا ؟ ، ضحك ودمعة حزن وأسى وحرقة في عينيه ، جرمي اني ادمر اقتصاد الوطن ، جريمتي إقتصادية وإتجار بالخمور دون تصريح ! تخيل يا دكتور خمور ! وأنت تعرف جدي لأبي ، وجدي لأمي من ، لذلك قالوا أني سافرت . من الصعب الحديث حول حقيقة الأمر للجميع .
قلت : أخبرني قصتك .
أبو محمود : أنت تعرف وبحكم صداقتك مع أخي محمد وزياراتك لبيت أهلي , أني كنّت في ليبيا مدة خمسة عشر عاماً عملت هناك ، ثم عدت وأسس شركة مقاولات هنا ، إضافة لتجارة الأخشاب ، وكان لدي شريك على علاقة صداقة بضابط كبير في المخابرات .
رددت موافقًا : صحيح ، أعرف ذلك ومرة ذهبت أنا ومحمد لمستودع الأخشاب.
تابع أبو محمود : وردتني شحنة أخشاب ، تستخدم في صناعة الأبواب والنوافذ بعض أنواع المفروشات الفاخرة ، أحضرتها لكثرة الطلب عليها لفئة معينة من الناس تهوى هذا النوع من الأخشاب وكانت غالية الثمن .
لم أكن أدر أن شريكي قد ثرثر أمام صديقه الضابط ، الذي وجدته في اليوم التالي في مكتبي يعلمني أنه يريد هذه الشحنة وأنه أحضر معه سيارة لينقلها .
تخيل قرر الإستحواذ عليها ، ونقلها دون أي اعتبار لي ولموافقتي .
ثم قال لي أنه إتفق مع شريكي على السعر وإنتهى الأمر ، وتفضل معنا على المستودع العمال والسيارة معي حتى ننقل الخشب ، إتصلت بشريكي بالبيت ولَم يكن موجود ( قبل اختراع الجهاز المحمول ) .
نظرت إلى تقاسيم وجهه المتعبة ، إستأذن بإشعال سيجاره رغم كحته المتكررة خلال حديثنا ، فقلت له : ألا ترى نفسك متعباً وتسعل باستمرار ؟ فكيف تدخن ؟
رد علي : خليها لله يا دكتور ، سعال وتعب وضغط ونقلت للمستشفى مرتين وتطور لدي ربو تحسسي من وجودي في السجن منذ ٤ سنوات وباقي لي سنة لأخرج .
رجعت لحديثنا : لكنك لم تكمل لما سجنت ولما لا تريد أن يعلم الناس بذلك ؟
أبو محمود : حين لم أَجِد شريكي ، رفضت تسليم الضابط الأخشاب حتى أقابل شريكي لأن قيمة الأخشاب كبيرة و ثلثيها لي .
توعدني الضابط أني سأندم لهذا ، وغادر وهو يشتم .

وفِي صباح اليوم التالي ، تم القبض علي من مكتبي وتفتيشه وعُثر في خزينة المكتب على خمسين ألف دولار مزور ، وتم مداهمة المستودع ليجدوا فيه عشرين صندوق ( ويسكي مهرب ) ، ضحك وهو يمسح دموعه تخيل التهمة ( دولارات ، و ويسكي مهرب ) ، الضابط وشريكي نقلوا الأخشاب ، ثم وضعوا الدولارات المزورة ، وصناديق الويسكي المهرب ( علمت لاحقًا أنها من المصادرات في الجمارك احضرها الضابط لإنهاء مسرحيته ثم الشرب منها إحتفالاً بنصره ) .
وأنت تعرف باقي المسرحية ، محاكمة إقتصادية بتهمة تخريب إقتصاد الوطن ، تهريب مسكرات البلد يعج ضباطه بالفضيلة .
فهل يصدق كل شخص ذلك .؟
سألته : وشريكك .
فقال أبو محمود : شريكي ؟ وهل هناك خلّ وفي هذه الأيام ؟ يا حكيم الصديق الصدوق هو من المستحيلات الثلاث الآن .

غادر العيادة وحملني السلام لأهله وسألني متى زيارتي القادمة للعيادة ، فقلت هي الآخيرة لي ، لكن إن كان هناك شيء هام سأطلب من زملائي تقديمه لك ، أو يمكن أن أنوب عن أحدهم وآتي مرة أخرى ، وسيكون لي شاكرًا من أنوب عنه فالكل يهرب من مناوبة السجن .

أبو محمود : فقط أريد بعض الأدوية وعسل وبعض الأعشاب ، في صالة الزيارة ممنوع أن أستلمها وحين يسلموها للشرطي للتفتيش يختفي معظمها .
وعدته بأن تصله مع الطبيب المناوب الثاني بإذن الله .

ودعته وجلست واجمًا حزينًا ، إقترب الممرض مني وقال : في السجن كثير مثله ، تهم وتلفيقات ومن يخرب الإقتصاد يجلس في البرلمان , و على رأس شركات ومؤسسات من المفترض أن من يديرها يجب أن يكون مؤهلًا أخلاقيًا وعلمياً ، لكنهم

وأ نت تعرف ذلك مدراء فيتامين ( واو )

بعد سَنَتين علمت أن أبا محمود عاد من سفره ، وأنه خسر عمله في مغتربه، وعاد ليعمل في مجال المقاولات ، زرته في

بيته ثم انتقل لبيت قرب عيادتي وكثيراً ما كان محمود يأتي للعيادة عندي لكي أذهب لأرى أباه إسعافيًا بسبب سوء حالته الصحية نتيجة الربو الذي أصيب بِه.

حينما قررت السفر للسعودية زرته مودعًا فكثير منّا يضطر لمغادرة وطنه بحثًا  عن فرصة عمل أفضل حينما تضيق بِه السُبل، يترك أهله ، عشيرته ، و مرابع صباه .

فقال لي : رافقتك السلامة ولكن تذكر أن في غربتك كلمة مبارك تأتي متأخرة وكلمة ,  وختم الله احزانكم كذلك تكون متأخرة وأنت في غربتك ستفرح وحدك ، وتحزن وحدك ، لن تجد من يفرح معك أو يمسح دمعتك ، وأهداني كراسة فيها بعض أشعاره

هي وريقات فيها قصائد لا يمكن نشرها آنذاك .

بعد سنة علمت أنه فارق الحياة متأثرًا بسوء حالته الصحية وحدوث قصور رئوي حاد لديه .

سليمان_عمر **الشارع العربي**

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى