قصص من الواقع

بداية ونهاية أبي الفاروق

مولد أبي الفاروق

ولد في منتصف حزيران من عام ست وستون وتسعمائة وألف، يقول جده كانت ولادته الأسرع ولادة في العائلة، فقد وضع إبريق الماء لإعداد الشاي و خرج لشراء فول وحُمُّص من أجل وجبة الإفطار، فعاد للبيت ليجد الماء قد استخدم لغسل المولود الجديد.. فحمله جده، و كان واسع العينين.. نشيط الحركة دون بكاء.. فأذن له و سماه بنعمان، و كناه بأبي الفاروق .

سمات  أبي الفاروق
تميز هذا الطفل بالنشاط و الحركة منذ صغره، وما إن دخل المدرسة حتى ظهرت لديه علامات الذكاء واتقاد الذهن.. فكان نهم القراءة و تعجبه المجسمات الميكانيكية.. فكان دائماً يقوم بتصنيعها ولا تراه إلا وهو يحضر الأعواد الخشبية والمسامير ومحركات الكهرباء الصغيرة.. ليصنع مجسمات السيارات و غيرها.. ثم بدأ عشقه للطيران، فبات يمتلك عددا كبيرا من الكتب التي تتحدث عن آليات الطيران، و نظرياته، و تطوره.. و هو مازال بعمر الثانية عشر سَنَة، ثم بدأت محاولاته لتصميم نماذج للطائرات الشراعية، و قرأ عن نماذج ليوناردو دافنشي وغيرهم، ووصل هوسه بالطيران إلى أن صنع نموذجاً كبيراً لطائرة شراعية و قفز به من سطح بناء في مزرعة والده، مما تسبب بشج رأسه، ورضوض في جسمه.. و كان حلمه أن يتابع دراسته بهندسة الطيران، ونظرا لشغفه الكبير بالقراءة، فقد أسس مكتبته وهو ابن عشر سنوات، و بدأ باقتناء كتب المنفلوطي والرافعي وطه حسين.. إضافة للكتب الدينية المتنوعه والمجلات الشهرية والدوريات.. كان نموه الجسدي ملفتاً، ففي سن الخامسة عشر تظن أنه قد بلغ العشرين، تميز ببنيته العضلية القوية، وطوله الفارع و شخصية رجولية مميزة، وكان قد وصل للصف الأول الثانوي، ومثله كمثل طلاب الثانوية في سوريا كان يلبس ثياب المدرسة العسكرية، فكان يثني أكمامه حتى العضد، وكنت أراقبه وأرافقه في الذهاب والعودة من المدرسة..
كان نعمان أو أبو فاروق يحب المسجد ويكثر من التردد عليه للصلاة..وكان لا يترك فرضا منهاً أبداً، ويحب أن يصلي الصلاة مع نوافلها.. وكان يوم الجمعة لديه، له طقوسه يحاول أن يصلي الفجر في المسجد ويعود لينام قليلا، ثم يستيقظ ويغتسل و يقرأ سورة الكهف ليذهب الى صلاة الجمعة في مسجد بعينه دائما،ً كان اسمه مسجد “الريس” ليحضر الخطبة عند الشيخ عبد المجيد، ويجتمع بعد الصلاة مع أصدقاءه الذين مازلت أذكرهم واحداً واحداً وكانوا من خيرة شباب البلد أخلاقاً و التزاماً..

بداية رحلة معاناة أبي الفاروق

عندما بدأ نعمان العام الدراسي في الصف الثاني من الثانوي.. كان وقتها نظرا لعمره يعاني مثل معظم الشباب من ظهور حب الشباب بوجهه.. واستخدم الكثير من الأدوية، إلى أن ظهرت في جانب عنقه حبة ضخمة، لم يثمر فيها العلاج و بقيت قاسية محمرة، و راجع الطبيب بشأنها..
سأله الطبيب بعد فحصه قائلا:
– منذ متى هذه الحبة هكذا ..؟
– أتقصد يا دكتور حب الشباب..؟
فكان رد الطبيب غريباً وعلى وجهه علامات القلق:
– هي حب ختايرة..
وكتب ورقه فيها اسم طبيب و عنوانه لمراجعته في أقسى سرعة..
وفي اليوم التالي راجع نعمان الطبيب وكان معه أخاه الأكبر، بعد فحصه جيداً وسؤاله عن بدء الأعراض، طلب إجراء فحص دم روتيني في المعمل المجاور لعيادته، وبعد نتيجة التحاليل طلب الطبيب عودة نعمان في اليوم التالي مع والده، رجع نعمان في اليوم التالي إلى الطبيب وكان برفقته عمه بسبب سفر والده، فأخبره الطبيب بإلزامية إجراء فحص لبزل النقي العظمي وأخذ العينة اللازمة، وطلب العودة في اليوم التالي..كان ذلك في شهر شباط من عام اثنان و ثـمانون و تسعمائة و ألف.
أول شيء فعله والد نعمان بعد عودته من السفر هو الذهاب رفقته إلى طبيبه للاستفسار عن نوعية المرض، وبينما الطبيب يتحدث إلى والده عن مرض ابنه وطرق علاجه، ونسبة شفائه..إذ دخل نعمان الذي كان ينتظر خارجا بناء على طلب طبيبه..
جلس بجانب والده ووضع يده على كتفه و خاطب الطبيب بشجاعة بالغة وإيمان ملموس بقضاء الله وقدره قائلا:
دكتور نزار : أعرف أني مصاب بمرض خبيث.. فأنا لا أعترض على ذلك.. ولكن أخبرني كم من الوقت متبقي لدي.. ؟؟
صمت الطبيب أمام رباطة جأش الفتى و اضطراب والده.. فأجابه وهو يبذل جهدا لإخفاء الأمر الحقيقي:
– من قال ذلك..؟؟
– لا داعي لإخفاء الأمر علي فالمريض هو أنا.. والوقت المتبقي يخصني وحدي..
فلم يجد الطبيب بدا من الرضوخ لطلبه أمام إصراره وعزيمته على معرفة الحقيقة

فقال له :

– حسناً إذن.. أنت مصاب بابيضاض نقوي حاد.. و الوقت المتبقي علمه عند الله، ويمكن أن يهجع المرض لديك.. و سنبدأ بالعلاج منذ الغد..
بعد أن تكلم نعمان مع الطبيب وشرح له ماهية مرضه.. واختلاطه.. عاد إلى البيت، توضأ وصلى، ثم ذهب لفراشه باكراً منتظراً الفجر للذهاب إلى المسجد..
ذهب للمدرسة ليودع أصدقاءه وأساتذته، كانت معنوياته مرتفعة وهو يتحدث عن مرضه، مخبرا إياهم أنه سيبدأ علاجه اليوم، و قد تتدهور صحته و يمنعه ذلك من المواظبه على المدرسة.. و طلب من أصدقاءه زيارته ومده بالكراريس لمتابعه دروسه في غرفته..
عاد يومها للبيت و بادر والدته بكلمته المعتادة (I am Hungry) التي طالما داعب أمه بهاته العبارة باللغة الأنجليزية كلما عاد جائعا من المدرسة..

تحدي الألم بالإيمان

تناول نعمان طعامه و رافق والده إلى الطبيب مرة أخرى ليعطيهم الوصفة الطبية، وطريقة استعمال العلاج بعد أن وجههم لوزارة الصحة لشراء الدواء.. وقد حضر ممرض فورا للبيت بعد عودتهما للبدأ بإعطائه الحقن.. وكانت كل جلسة علاج، تترافق بغثيان وقيىء شديدين، وإجهاد ينام بعدها نوما عميقا عميقاً.. ليصحو فيتوضأ ويتلو ما تيسر من القرآن، ويقرأ في كتاب من كتبه التي جمعها خلال السنوات الست الأخيرة.. والتي كان يحبها لدرجة أنه كان يوصي دائما إخوته بالعناية بها والاستفادة منها.. كما كان يذكر إخوته بالصلاة دائماً.. ويحاول أن لا ينقطع عن الصلاة في المسجد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكان البيت في ذلك الوقت مزاراً لأصدقائه الذين ما انقطعوا يوماً عن زيارته وكانت طقوس يوم الجمعة لديه مقدسة..وكثيراً ما كان صديقه حسان ونذير يحضران لإصطحابه للمسجد.
ومع توالي الأيام القليلة بدأت علامات الإعياء تظهر عليه.. فبدأ تساقط شعره، وشحوب لونه، و حدث لديه في شهر نيسان إرتخاء خفيف في جانب وجهه الأيمن..
وآقتربت إمتحانات السنة.. ومن شدة حب صديقه له، وتشجيعه على مقاومة مرضه والتشبث بالحياة أخبره أنه مصمم أن لا يتقدم للإمتحان حتى يكون رفقته في السنة المقبلة بنفس الصف..لكن نعمان رفض أن تضيع السنة لرفيقه، لكن صديقه أصر على ذلك..
مر شهر نيسان و نصف أيار ثقيلاً عليه..و آشتد مرضه و أصبح لا يقوى على الصلاة إلا جالساً أو في البيت، حتى كان يوم الخميس وكان آخر يوم في إمتحانات الصف الثاني الثانوي، فطلب من والده أن يسمح له بدعوة أصدقاءه في اليوم التالي للمزرعة لتناول الغداء هناك..
في البداية رفض أهله ذلك نظرا لتعبه الشديد، ومن الضرورة أن لا يبذل أي مجهود، حتى تتحسن صحته، ويتم دعوة كل أصدقائه.. لكنه رفض وتشبث بطلبه معللا ذلك بأنه قد لا يكون في العمر بقية ..
وافق أهله على مضض وأتى صديقه قبل صلاة الجمعة واصطحبه كالعادة للصلاة في المسجد ثم آنطلقوا جميعا إلى المزرعة وقضوا نهارهم هناك رفقة أحد مدرسيهم، يتضاحكون ويستعيدون ذكريات أيام خلت.. فتناولوا مما تجود به الأرض من خيرات أعدوها بأنفسهم..
وعند المساء عاد نعمان متعبا جدا إلى البيت، فاغتسل كعادته و صلى و ذهب للنوم، إلى أن آستيقظ وأيقظ من حوله لصلاة الفجر، وجلس يقرأ القرآن كعادته..
ومما أذكره جيدا ولا يمكن نسيانه أبدا أن نعمان كان قد اشترى قبل مرضه مجموعة من الكتب (جامع الأصول في أحاديث الرسول) وكانت إحدى عشر مجلداً.. ونظرا للملاحقات التي كانت آنذاك، فقد كان والده يعارض إقتنائه للكتب الدينية بشكل ملفت للنظر..ورغم ذلك آقتناها وأخفاها في سطح البيت.. و كان يدخلها لغرفته بالمجلد الواحد بين الفينة والأخرى حتى لا ينتبه له أحد.. وخلال فترة مرضه الأخيرة كان تلك الكتب هي أنيسه في شدته، و عندما ينتهي من قرائة واحدة منها يغلف المجلد جيداً بتجليد شفاف سميك.. ويضعه في مكتبته التي غصت بكتب الرافعي و المنفلوطي وسيد قطب و تفاسير القرآن و كتب عن الطيران و الاَلات و غيرها.. وبقيت تلك المجلدات محتفظة بالتجليد الذي وضعه لها، حتى بعد مرور خمس و ثلاثون سنة على ذلك، إضافة إلى صناديق لمجلة العربي و سلسلة مجله المختار.. فقد كان انتقائياً في اختيار كتبه و كان وصيته الدائمة المكتبة و المسجد والصلاة..
أنهى تجليد الجزء العاشر و وضعه مكانه وآستلقى في سريره و خلد للنوم ليستيقظ ظهراً وهو غير قادر على الحركة، يهذي من تأثير حرارة مرتفعة.. فاستدعي فورا طبيبه لفحصه وأعاد فتح وريد له لإعطائه أدويته. و المقويات والسوائل المغذية..
في اليوم التالي ازدادت حالته سوءًا، و حدث هبوط لديه وآنخفاض بصفيحات الدم، وبدت تظهر لديه نزوف تحت جلدية..وتخوف الطبيب من حدوث نزوف دماغية فطلب أن يتم نقل دم طازج له، وكانت زمرة دمه من النوع النادر,فذهب بعض إخوته و أبناء عمومته لبنك الدم للتبرع له، و بعد معاناة آاستطاعوا تأمين الوحدات المطلوبه له..

نهاية رحلة معاناة أبي الفاروق

و في اليوم التالي وكان يوم الاثنين، تحسن وضعه قليلاً فطلب أن يتمشى في البيت و الصلاة، وطلب تحريره من الأنابيب التي علقت بأوردته، فجلس في صحن الدار تحت شجرة التوت العتيقة التي تظلل البيت، متذكرًا شقاوته و هو طفل صغير.. فكم تسلق هذه الشجرة وكم صعد أعلاها لينفض التوت.. وكم نصب أرجوحته بأفرعها الضخمة.. وكم مرة هرب من عقوبة أبيه ليختبأ أعلاها رافضًا النزول حتى تأخذ له أمه الأمان من والده.. تذكر محاولاته الفاشلة مع إخوته للتخلص من شجرة التوت العملاقة.. تذكر يوم زواج جده كيف أخذ لباس أبيه العربي ودخل ليبارك لجدّه.. تذكر دراجته الحمراء التي تعلم عليها قيادتها في صحن الدار، و التي تعلم عليها كل أبناء الحارة.. تذكر يوم آنتقل من الإعدادية للثانوية.. يوم وضع أباه ثياب المدرسة يمينه وثياب العمل يساره وخيره قائلاً اختر أيهما تريد..؟ فإن اخترت ثياب المدرسة فيجب أن تكون كفؤا لها وأنا سأقدم لك لحم كتفي اليمين و أتلوه باليسار لكي تتم تعليمك..
شريط ذكريات مر أمامه كمسلسل مترابط الأحداث وكأنه يراه لتوه.. حتى نال منه التعب فطلب الدخول لغرفته مجددا للصلاة وتلاوة القرآن، والكتابة في كراسة كان يخفيها تحت وسادته كلما دخل أحد غرفته..
دخلت والدته فقال لها:
– يا أماه إني جائع..
– اطلب ما تريد أن أعده لك يا ولدي..
– لا أدري يا أماه فما عدت أجد الطعام مستساغاً.. فطبخك أطيب..
بكت أمه و عددت أصناف الطعام أمامه ليختار و هو يومئ لها برأسه بالنفي…
في النهاية قال لها:
– أي شيء لا فرق عندي فكل الطعام أصبح عندي له نفس الطعم..

أعدت له والدته طعاما سهل الابتلاع.. شوربة العدس والقمح، أكل منها النزر القليل، وشعر بالغثيان وتوقف.. وخلد للنوم..
استيقظ صبيحة اليوم التالي و الذي يليه وهو على هذه الحال، تعاف نفسه الأكل، زاهد به .. وفي صباح يوم الخميس طلب من والدته طعاما فأحضرت له ماأراد فأكل لقيمات قليلة فقط، ثم قال لها:
– أشعر يا أماه بالعطش..
فأحضرت له كوب ماء شرب منه فقال لها:
– إن هذا الماء لا يروي عطشي..فأنا لا أستطعم عذوبته يا أماه..
فنادى أخوه الأصغر وقال له:
– أتذكر عندما كنّا نذهب للمزرعة و ندير محرك المضخة و يتدفق الماء من أنبوبها الضخم.. وكيف كنّا نضع فمنا عليه ونعب الماء عباً حتى نتضلع..؟؟
– أجل يا أخي..أذكر ذلك جيدا..
– أريد ماءا من هناك..
– حبا وكرامة .. لك ما تريد يا أخي..
ذهب أخاه للمزرعة وأحضر لنعمان ماءا عذبا زلالا.. فأعطاه كوباً منه فقال له:
– ليس هو الماء الذي كنّا نشرب يا أخي، ضعه لي في قدر أريد أن أعب منه..

فعلت أمه ذلك..لكنه لم يرتو من شرب الماء أبدا..

عم الحزن و الوجوم في وجوه أهل البيت، ووصل الخبر لأعمامه فحضروا لزيارته، وجلسوا حوله.. وبعد منتصف الليل طلب من الرجال المتواجدين الذهاب ، و نادى أمه وخالاته وعماته قائلاً:
– تركتموني مع هؤلاء الرجال قساة القلب..
فعم بكاؤهن، فالتفت لهم قائلاً:
-لم البكاء فأنا أحس بأني أفضل حالاً..والحمد لله..
التفت لأمه قائلا:
– يا أمي إن حان الأجل فلا تشقي ثوباً ولا تصرخي فإني ذاهب لجوار من لا يظلم عنده أحد.. وليكن قبري بدرجة واحدة و شاهده قبر واحد، فقالت له:
– لم هذا الكلام يا حبيبي فغداً تتحسن و افرح بك..
اقترب الفجر فخرجت النسوة من الغرفة كان اليوم هو الخامس عشر من شعبان ليلة الجمعة.. القمر بدراً والضياء ينير البيت.. كان ليلتها ألف سراج ينيره.. و نسيم هادئ عليل يلعب بأوراق شجرة التوت العتيقة وهو الموافق لليوم الثالث و العشرين من شهر أيار من عام اثنان و ثمـانون و تسعمائة و ألف ..
دخل أعمامه و أبوه و جده غرفته فقال لهم:
– ما يبقيكم هنا و الفجر قد حل..
فذهب من ذهب للصلاة و بقي البعض في البيت فصلوا الفجر وصلى في سريره ثم نادى أحد أعمامه فقال له:
– اليوم يوم الجمعة هلا قرأت لي سورة الكهف..؟؟
فبدأ عمه بقراءتها لكن لفرط حزنه بدأ بالتأتأة فقال له:
– يا عماه كل هذه السنين و لم تحفظها..؟؟ تابعها لي وسأتلوها..
فقرأ سوره الكهف ثم ياسين.. فدخل شاب الغرفة فتضايق من وجوده فنادى عمه الأكبر وهمس في أذنه بكلمات تغير فيها وجهه.. و ذهب وكلم هذا الشاب و طلب منه المغادرة، فغادر مضطربا..ً ثم مال نحوه أباه سائلا إياه ومصرا على معرفة سبب طلبه مغادرة الشخص، فرد عليه أنه كان هناك أشخاص في الغرفة مرتاح لوجودهم..فلما دخل هذا الشاب اختفوا.. ولما ذهب عادوا إلى الغرفة..
أشرقت الشمس فطلب ماءً للوضوء.. ثم طلب أن يستلقي على الأرض فقال له أعمامه بأن السرير أفضل، لكنه صمم أن يضعوا له فراشا على الأرض، ففعلوا.. وطلب أن يوجهوه للقبلة ففعلوا.. ونزع الأنابيب من يديه واستلقى على السرير.. مردداً قوله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ).
اقترب منه عمه الأكبر يسأله عندما رآه مبتسماً:
– ما بك يا نعمان ..؟
فأجابه:
أرى أناسا لم أرهم من قبل، بيض الوجوه كوجه القمر، و أرى أرضاً لم أر بحسنها، أتوا لإصطحابي لها..

فقال له عمه:
– إن شئت إذهب معهم..
فرد عليه نعمان :
– نعم نعم..
ثم نهض بصدره و أطلق تنهيدة عميقة ذاكراً إسم الله، وسقط على وسادته مبتسماً، و وجه يضيء رضى..

بكى أعمامه و أبوه ووصل الخبر للنسوة خارجاً بأن نعمان قد فاضت روحه.. بعضهن علا صوتهن.. فوقفت أمه ترجوهن أن يسكتن، فنعمان رحمة الله عليه كان قد طلب أن لا يصرخ عليه.. الحمد لله و لا حول و لا قوة إلا بالله..
عكس الكثير من الميتات ترى البيوت فيها ضجيج وزحام و اضطراب.. كان أنذاك البيت هادئاً وساكناً.. وسرعان ما اجتمع الأهل و الجيران لتجهيزه للدفن.. فغسل وكفن وكانت قد طالت لحيته.. ثم لف بعباءة.. ومشت جنازته بسرعة غريبة لتصل المسجد الذي طالما صلى فيه صلاة الجمعة عند شيخه عبد المجيد.. والذي حضر جمعته الأخيرة كما اعتاد بالصف الأول ثم شيع إلى منزله -قبره- الذي شاء الله ان يكون بمحاذاة منارة المسجد المجاور للمقبرة وعندما ألحد في قبره كشفوا عن وجهه فكان كالنائم مبتسماً راضيا.. فأهيل التراب على قبره.. وعند عودة أهله للبيت، وجد أخوه تحت وسادته كراسته وكان قد كتب فيها :
بكت عيني أمــي فقلت لــها …….إن ذاك من عند الإله مقدور
بكت عيني اليمنى فزجرتها ….فقالت لي اليسرى القلب ينهار
حمـدت الله على ما أصــابني ….فإن واهب العلم هو صاحب القدر
نعمان ١٩٨٢/٠٥/٢١
وقد تمت كتابة البيت الأخير على شاهد قبره: بِسْم الله الرحمن الرحيم هنا يرقد المغفور له باإذن الله الشاب نعمان عمر الساعور توفي يوم الجمعة الخامس عشر من شعبان الثالث والعشرون من أيار ١٩٨٢.
حمدت الله على ما أصابني …..فإن واهب العلم هو صاحب القدر
رحمك الله يا نعمان كنت خير أخ و خير شاب..وأرجو من الله أن تكون بين الصديقين والشهداء.
سليمان_عمر**الشارع العربي**

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى