قصص من الواقع

….طبيب السجن….

السجين ٧١٣

 

تخرج الطبيب من كلية الطب البشري …

بعد غربته عن أهله داخل بلده،

و بدأ اختصاصه في وزارة الصحة، ..

ومن المتبع أن يقوم هؤلاء الأطباء بثلاثة انواع

من المناوبات خلال السنة الأولى:

1- تغطية المراكز الصحية النائية

2-والمشافي المتطرفة الإسعافية

3- والأكثر سوءًا عيادة السجن.

في بداية كل شهر كان يذهب للوحة الإعلانات في المشفى ليعرف متى أيام (سجنه).

فكل طبيب ينال ثلاثة أيام سجن في الشهر، فتأتي سيارة السجن الساعة التاسعة صباحاً لتنقله لزنزانته

-عيادة السجن- و تعيده في اليوم التالي بنفس التوقيت

ومن سوء حظ المناوب أن لا يأتي السجين -الطبيب- في اليوم التالي …فيستمر سجنه القسري يوماً آخر ..

حيث لا مجال أن تفرغ العيادة من طبيبها. ..

ذهب الطبيب في مناوبته الأولى للسجن ودخل زنزانته المؤلفة من غرفتين :غرفة الفحص وغرفة النوم.

و كمعظم دول العالم النائم فإن الحكومات تعتبر السجناء مغضوب عليهم حتى لو كانوا مظلومين..

فتفتقر العيادة لكثير من المعدات الضرورية لإنقاذ حياة المرضى …

ربما هم يتقصدون ذلك لعدم تكليف أنفسهم عناء إتمام محاكمتهم وتنفيذ الأحكام بهم …

فلا جهاز صدمة كهربائية ولا جهاز رسم قلب.. وإنما فقط سماعة، ميزان قياس الضغط الدموي، كشاف طبي، و جهاز لفحص الأذن. مخبر طبي بسيط، وجهاز أشعة متهالك، وبعض المحاقن وحقن. ..

دخل الطبيب لدى آمر السجن وأعطاه التعليمات وكيفية العمل والسجلات، وسيل من اللاءات.. لا تسأل عن أسماء نزلاء الجناح السياسي فهؤلاء مجرد أرقام..

لا تتعاطف مع النزلاء بتحويلهم للمشفى إلا في الحالات القصوى، فبعضهم يخطط للهرب..

لا تصف أدوية فيها مركبات قوية لأنهم يستخدموها كمخدرات..

لا ترفض الذهاب للمنفردات لأن بعض نزلائها قد يحاولون الانتحار، ولا تدخلها دون شرطي مرافق يتأكد من تصفيد النزيل، لأننا لا نريد أن تكون ضحية له..

بعد هذه اللاءات المقيتة والمخيفة يتمنى لك طيب الإقامة في السجن..

خلال مناوبته الأولى لم يكن هناك الكثير ولا المثير ليفعله….

حالات بسيطة عالجها وتعرف على عدد من السجناء بعضهم يمتلك روح الفكاهة , يستعين بها على كسر الملل والخوف من السجن….سمع كثيراً من القصص و أسباب سجن البعض، ..

كما تعرض للمضايقة من بعض نزلاء جناح المخدرات الذين كانوا يعرفون مسبقاً أي حبوب تحوي نسبة من المخدر أو مثيلاتها ليطلبوا وصفها، و كان يرفض بشدة وذلك خوفاً من لائحة اللاءات التي تمت تلاوتها عليه…

وما احتوى الحديث مع آمر السجن بتحويل المناوبة اليومية لسجن..

في ليلته الأولى استدعي للمنفردات , و ازدادت خفقان قلبه عندما علم أن النزيل قد حاول الانتحار بجرح نفسه بموس حلاقة خبأه في فمه.. ..

نزل الطبيب للمنفردات لأول مرة وهو معتقد أن الأمر لم يتعد جرحا أو جرحين ينهي خياطتها بعدة دقائق, لم يدر أنه قد يحتاج لمكنة خياطة لإغلاقها نظرا لكثرتها، و أنه سيبقى حتى موعد حضور الطبيب البديل ويعملا معاً حتى الساعة العاشرة صباحاً لإغلاق جروحه..

.. سأل الطبيب الضابط عن السجين. فأجابه: – لقد صدر حكم بالإعدام عليه منذ ثلاث سنوات، و لم ينفذ بعد بسبب نفوذ أسرته.. فقد حاولوا تبرئته من جريمته الفظيعة التي ارتكبها، لكن اعترافه بها الصريح حال دون ذلك، وكذا تمثيل جريمته تماماً كما وقعت..

كان السجين في العقد الثالث من العمر فارع الطويل قوي البنية، وحقاً كانت جريمته بشعة.. فقد اختطف ابن جيرانهم واغتصبه ثم قتله وأحرق جثته.. فجريمته متعددة الجوانب وبها ظروف التشديد..لذا لم يستطع المحامون تخفيف حكمه، ونتيجة -عدم فساد- نظام القضاء لم ينفذ الحكم.

عمل الطبيبان عدة ساعات بإغلاق جروح السجين.. الذي لديه سجل من الاستعصاءات المماثلة في محاولة منه للخروج للمشفى، ليستطيع الهرب.. انتهى الطبيبان من معالجة المريض وغادر الطبيب ليحل بديله..

بعد عشرة أيام كانت المناوبة الثانية للطبيب، فدخل زنزانته الطبية للمرة الثانية وهو يشعر بإحساس غريب، توتر وترقب.. وشعور غريب يختلج في صدره.. مضى اليوم دون حالات هامة تذكر، وبُعيد العاشرة ليلاً ذهب الطبيب لسريره لينام،

لكنه بقي يتقلب مرارا في سريره قبل أن يغفو ليوقظه الممرض المساعد له.. – دكتور عندنا حالة حرجة:توقف قلب..

أسرع الطبيب للعيادة ليجد أربعة سجناء يحملون على الحمالة شخص في منتصف العقد السادس، بدين الجسم، والغريب بالأمر أنه كان يلبس بدلة رسمية كاملة، قميص وسروال وسترة وربطة عنق.. وقد حلق ذقنه و كأنه يهم بالخروج.. سألهم عن إسمه..فأجاب أحدهم: – إنه (٧١٣)، قد صدر أمر بالإفراج عنه البارحة ضمن العفو العام عمن قضوا ثلاث أرباع المدة..

+وقد كان (٧١٣) قد حكم بالسجن المؤبد وهو نزيل في السجن منذ ما يزيد عن خمسة عشر سَنَة..

بدأ بفحصه الضغط صفر، النبض غير موجود، الوجه بارد واليدين.. دس يديه تحت ثيابه، مازال جسده دافئ..فبدأ بإجراءات الإنعاش القلبي الرئوي له وحاول الممرض فتح وريد له دون جدوى.. فأوردته قد انخمصت..

كان الطبيب بحاجة لجهاز صدمة كهربائية ولكن هذا الجهاز لم يكن متوفرا، فجمع قبضتيه معاً وهوى بهما فوق العضلة القلبية في محاولة منه لتوليد صدمة كهربائية تعيد للقلب نبضه، ولكن دون جدوى،

ثم ملأ حقنة بالأدرينالين وحقنها عميقاً داخل العضلة القلبية، و أعاد ضربه وبدأ بإجراء التنفس الإصطناعي والضغط فوق الصدر وتحسس النبض دون أية استجابة..

سمع همهمه من مرافقية (الله لا يرحمه) بيستاهل.. ذهب مع عاره..

لم يلتفت الطبيب إليهم وأكمل عمله.. مضت عشرون دقيقة على بدأ عمله ثم توقف الطبيب و كتب في السجل:

تم إحضار جثة النزيل (٧١٣) الساعة الخامسة صباحاً، الضغط لايوجد، النبض لا يوجد، الجسد دافئ، برودة في الأطراف والوجه، تمت محاولة إجراء الإنعاش القلبي الرئوي دون استجابة.. أعلنت الوفاة الساعة الخامسة وعشرون دقيقة.. فطلب تغطية جثته و إبلاغ الضابط المناوب بوجود حالة وفاة. ..

إلتف الطبيب نحو من سمعهم يتمتمون و تنحى جانباً وسألهم عن قصته…

فقال أحدهم: – هذا شخص حكم بالسجن المؤبد وهذا الحكم ظالم وقليل عليه، ولو كنت قاضٍ لأمرت بإعدامه أربع مرات.. استغرب الطبيب ذلك وسأله وعلامة الدهشة بادية على وجهه: – ماهو الجرم الذي يستدعي إعدامه أربع مرات..؟؟

فاستطرد الشخص قائلا: – كان سابقاً ضابطاً في المخابرات وزوجته مطلقة، وله ابنين يسكن معهما في بناء واحد وهما متزوجان اعتاد بعد خروج ولداه للعمل أن يصعد لبيت ابنه الأكبر مهدداً زوجته و كان يقوم باغتصابها.. ويهددها إن قالت لابنه ذلك بأن يتهمها بأبشع التهم وكانت ضعيفة الشخصية فتلوذ بالصمت..وفي يوم لم يعد يكتفي فحاول مع الأخرى فبدأت بالصراخ.. وبينما هو يحاول معها دخل زوجها ورأى ما رأى وكان لديه مسدساً في غرفته ركض وحمله محاولاً قتل والده

ولسوء حظ الابن كان سلاحه مؤمناً، فسارع الأب وضرب ابنه على رأسه فأغمي عليه وأخذ المسدس من يده، وسمع أخوه الضجيج فنزل مسرع،اً وهاله ما رأى وهجم على والده، فما كان من الأب إلا أن يرديه بطلقة في راْسه، وفعل نفس الأمر مع ابنه المغمى عليه وهرب من بيته، بعد يومين تم القبض عليه..و بعد محاكمته حكم بهذا الحكم الجائر،..

والبارحة صدر أمر بالإفراج عنه، فوضب أمتعته منذ المساء وحلق ذقنه ولَبْس ثيابه منتظراً الصباح ليخرج، لكن مشيئة الله سبقت وقضى في سجنه.

نظر الطبيب للجثة لا يدري أيحزن لموته ام يرثي لحاله..

أتى آمر السجن وطلب الطبيب للإدلاء بشهادته حول الحالة وسأله هل تم استدعاؤك ليلاً للكشف عليه أو راجع العيادة ليلاً بأي شكوى ؟

فرد الطبيب بالنفي. فقال آمر السجن هاك السجل اكتب فيه ما حدث بالضبط معك منذ حضورك للكشف على الجثة وانصرف، ولكن ابقى في المدينة لربما نحتاج لحضورك مرة أخرى للشهادة لأن الجثة ستحول للتشريح الشرعي قبل دفنها.

غادر طبيب السجن يومها تتقاذفه الأفكار ومشاعر مختلفة.. عن فساد القضاء , و فساد إدارة السجن , والفساد الذي اعترى بعض النفوس التي لم تعد تحلل أو تحرم ….

 د: سليمان عمر **الشارع العربي**

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى