قصص من الواقع

الفردوس المفقود

إنتبذ  وحيد مكانا قصيا، والدموع تغطي مقلتيه، وتحجب عنهما الرؤية. يا ليته كان قد عٓمِيٓ قبل أن يشهد منظر والدته، وهي تجثو على ركبتيها ذليلة، تستدر عطف مالك البيت، الذي استصدر حكما قضائيا، يمكنه من استرجاع البيت من مكترييه، بعدما عجزوا عن تسديد السومة الكرائية لأشهر طويلة.
كانت والدته المعيل الوحيد لأسرته، بعد مرض ألم بالأب، فأقعده على كرسي متحرك، مهترئ العجلات. أما كان يكفي أنهم كانوا يعيشون على الكفاف منذ مدة بعض فقدان الأم لمورد رزقها ، بعد غلق أبواب الحمّام العمومي الذي تعمل به بسبب انتشار وباء (كورونا)؟ أما كانت سياط الفاقة التي انهالت على جلودهم، فأدمتها وقرّحتها كافية لتجعلهم يعتزلون الفرح، ويهجرون الابتسامة؟
لقد بدا له صاحب البيت، في تلك اللحظة، وحشا آدميا استطال حتى بلغ عنان السماء، وحجب عنه نور الشمس، بينما كانت أمه وإخوته كالأقزام أمامه طولا وشأنا. ها هي ذي أمتعتهم تلقى خارج البيت في منظر يدمي القلب، و يحرك لواعج القلب. تجمع الجيران حول الأسرة المكلومة ، في محاولة يائسة منهم لمواساتها، وأنى لهم ذلك؟! فماذا ستجدي الكلمات أمام فظاعة الموقف؟! وفي لحظة غير متوقعة، لمح  (مايكروفونات) تعلو رؤوس الجميع، ويتسابق حاملوها لنيل تصريحات “الضحايا” حول ما حدث. آه من هذه الصحافة الإلكترونية، التي تترصد فضائح المجتمع، ومصائب الطبقة الهشة منه لتزيد من نِسب الفرجة ! أي فرجة هذه؟ وأي سبق صحفي يقوم على دموع ومآسي المسحوقين؟؟ وأي ذل سيلاحقه بعد تصوير أمه وهي مكشوفة الشعر، مشقوقة الثوب؟ كيف سيتلافى نظرات السخرية من زملائه بالدراسة؟ تذكر ما كان يلاقيه من احتقار من طرفهم جراء ابتذال ملابسه، فتصفد جبينه عرقا . لا، لن يعود إلى الدراسة، على الأقل، حتى تُنسى هذه الواقعة.
مع أواخر النهار، وانسحاب ذيول الفضوليين والمتعاطفين، لملمت الأم المكلومة، رفقة أبنائها، قطع الأثاث المتناثرة، وكدستها في ركن من سطح البناية المجاورة، وأذعنت لرغبة جيرانها في استضافتها وأبنائها لقضاء تلك الليلة. تقلبت في فراشها طويلا، حيث هجرها النوم، واكتحلت عيناها بالسهاد، بحثا عن حل لأزمتها الخانقة. وفي خضم مصابها، لم تنتبه لغياب ابنها الأكبر، وعدم التحاقه بها ببيت الجيران.
مشى وحيد لا يلوي على شيء، تاركا الحرية لقدميه لتسوقانه أنا كان. أخرجته من حالة التفكير التي سيطرت عليه تلك الجلبة الصادرة عن أبواق الحافلات، وصراخ مساعدي السائقين، وهم يتنافسون على استقطاب أكبر عدد من المسافرين. أدرك أنه وصل إلى المحطة الطرقية، توجه نحو زاوية مظلمة، أسند ظهره إلى جدار، وتاهت نظراته في القبه السوداء المرصعة بالنجوم. تناهى إلى مسامعه حوار خافت يدور بين شخصين، أرخى السمع، فالتقط كلمات من قبيل( إسبانيا/ هجرة/ زورق……)، فمال بكليته إليهما، وتابع بقية الحوار، وهنا، بدأت الفكرة تفرض نفسها عليه بإلحاح، لقد وجد فيها الخلاص لكل مشاكله، وماعاناه.( الفردوس المفقود) هو الحلم، وعليه أن يسعى لتحقيقه بأي طريقة.
قضت الأم ليلتها تقلب الأمر من جميع جوانبه، فلا يمكنها البقاء مع الجيران للأبد، وإن استضافوها لليال أخرى، فلن يكون الأمر على سبيل الدوام، كما أن الحالة الوبائية قد سدت أبواب الرزق في وجه الجميع . قررت أن تستدر عطف المحسنين، فهداها تفكيرها إلى إقامة خيمة بلاستيكية في ناصية الشارع، في محاولة منها شد انتباه الرأي العام المحلي لوضعيتها المزرية هي وصغارها. وقد نجحت “خطتها”، فقد أثار منظر الأسرة المشردة، والأب القعيد شفقة ساكنة المدينة. فتوافد عليها عدد من المحسنين بأظرفة تتفاوت فيما ضمته من مبالغ مالية. بدأ الاطمئنان يعرف طريقه إلى قلب الأم المكافحة، بعد أن عدت المبلغ المتحصل عليه، ووجدته كافيا( لرهن) شقة صغيرة في حي شعبي، يقيهم سقفها الحر والقر. وضعت المبلغ في صرة ملابسها المكومة بجانب رأسها، ونامت قريرة العين، وما درت بما كان يدور بخلد وحيد، الذي امتدت يده في خلسة منها ، واستولت على( الظرف/ الأمل).
بدأ وحيد يحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال، في محاولة منه لطرد الإحساس بالذنب الذي لازمه منذ تلك الليلة التي غادر فيها المدينة كلها، وتوجه إلى مدينة طنجة، حيث كان الاتفاق على اللقاء بجماعة المهربين. سيعود، وسيعوضهم عن كل الشقاء الذي عاشوه، ستنسى أمه طعنته حين يمد إليها يده بالخير الوفير. فغايته كانت إسعاد قلوبهم مهما كانت الوسيلة إلى ذلك. تراءت له ولعيون رفقائه، ممن جارت عليهم الظروف ،وجعلتهم يقبلون بالمغامرة في عرض البحر، أنوار الضفة الأخرى، وهي تغمز لهم، وتعدهم بالسعادة.
تكدسوا جميعهم في زورق مطاطي صغير، وانطلقوا إلى عرض البحر، تاركين خلفهم واقعا بئيسا، ووطنا قاسيا. انكمش كل واحد منهم على نفسه، في محاولة منه لإخفاء رعشة سرت في أوصاله. فالموقف برمته كان مخيفا. ازداد الجو توترا مع إحساسهم بالبلل يلامس أقدامهم، فقد كان الماء يتسرب إلى الزورق. ساد الخوف، وتعالت النبضات، وبحركة لا إرادية، وقف بعضهم في محاولة للبحث عن منفذ الماء. وهنا ،اختل توازنهم، وسقط بعضهم في البحر.
قاوم وحيد باستماتة، حاول جاهدا الوصول إلى العوامة الملقاة إليه، لكن دون جدوى. ارتخت عضلاته، وسالت دموع حرى على وجنتيه، وهو يتذكر أمه، وما سيؤول إليه مصيرها بعد أن خذلها. سيبقى الشارع مأوى لها، بينما سيكون البحر مأواه الأخير، بعد أن لفظه البر، ودفع به التهور،وحيدا، إلى ذات المصير…

غزلان شرفي**الشارع العربي **

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى